كينز . . ومباديء في علم الاقتصاد
د. اميل قسطندي خوري
ولد الاقتصادي المعروف جون مينارد كينز (John Maynard Keynes) في مدينة كامبريدج في المملكة المتحدة عام 1883. درس كينز الاقتصاد والحساب في كلية الملوك (Kings College) وتاثر كثيرا بالاقتصادي الكبير الفريد مارشال (Alfred Marshal). وبعد تخرجه، عمل كينز كمدرسا للاقتصاد في نفس الكلية. واضافة لعمله كاستاذ جامعي، قام كينز بتقديم خدمات كثيرة للحكومة البريطانية، نذكر منها على سبيل المثال حضور مؤتمر فرساي للسلام (Versailles Peace Conference) وترؤس الوفد الانجليزي لمؤتمر بريتون وودز (Bretton Woods Conference) الذي اقيم تحت اشراف صندوق النقد الدولي (International Monetary Fund) في مدينة نيو هامبشاير في الولايات المتحدة الاميريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1944. وفي هذا المؤتمر، اتفقت الدول الاعضاء على تبني نظام سعر صرف ثابت (fixed exchange rate system) لعملاتها ليس فقط مقابل الذهب بل ايضا مقابل عملة كل من الدول الاعضاء في هذا النظام الذي عرف ايضا بمعيار سعر صرف الذهب (Gold Exchange Standard). وتحت بنود هذا النظام او الاتفاقية، تمت الموافقة على السماح لكل دولة ان تغير من قيمة عملتها بنسبة 10% على الاكثر لتصحيح اي اختلال او عدم توازن اساسي في ميزان مدفوعاتها (fundamental disequilibrium in the balance of payments). اما اذا رغبت احدى الدول الاعضاء في رفع او خفض قيمة عملتها بنسبة اكبر من 10% فعليها حينئذ ان تحصل على موافقة الصندوق بذلك.
وبالعودة الى موضوعنا، قام كينز باقتراح عدة مباديء عن الاقتصاد الكلي (macroeconomics) لاقت رواجا كبيرا لدى الدوائر الحكومية وفي اوساط المؤسسات الاكاديمية كالجامعات والكليات، وقد تم نشر هذه المباديء الاقتصادية في كتابه "النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقد" (general theory of employment, interest, and money) الذي نشر عام 1935. فمن ضمن هذه المباديء، يقول كينز انه يمكن للاقتصاد ان يكون في حالة توازن (equilibrium)حتى ولو كانت العمالة اقل من كاملة (less-than-full employment)، اي حتى وان كان هناك افرادا غير عاملين (unemployed workers) او مصانع واقفة او عاطلة عن العمل (idle plants). وان خفض سعر الفائدة لا يؤدي بالضرورة الى تحفيز استثمار الاعمال (business investment) بالقدر الكافي الذي من شانه ان يضمن عمالة كاملة. وان تخفيض الاجور لا يعتبر تصحيحا او علاجا كافيا للبطالة (unemployment)، اذ ان هذا العلاج ليس ممكنا بسبب رفض او مقاومة العمال/الموظفين لخفض الاجور. واذا افترضنا جدلا ان هذا الحل ممكن، فان هذا سوف يؤدي بدوره الى تقليص مستوى دخل المستهلك (consumer income) وبالتالي تخفيض معدلات الطلب الاستهلاكي (consumer demand)، الامر الذي من شانه ان يجعل اصحاب العمل يوظفون عددا اقل من العمال/الموظفين. وبناء عليه، فان كينز يقترح انه من الافضل العمل على زيادة معدلات الطلب الكلي/الاجمالي (total or aggregate demand) عن طريق رفع مستوى الانتاج (production)، بدلا من القيام بتغيير معدلات الاجور (wage rates).
ثم ينتقل كينز الى موضوع النقد (money) اذ يقول ان النقد يعتبر عاملا مهما في تحديد نسب الناتج والعمالة (output and employment). ففي نظر كينز فان ما يحدد معدل سعر الفائدة هما العرض والطلب على النقد (supply of and demand for money). فسعر الفائدة مثلا يؤثر على حجم الاستثمار وهذا يؤثر على الطلب الكلي الذي بدوره يؤثر على مستويات الناتج والعمالة. اما اذا كانت هناك زيادة في المعروض النقدي (money supply) فان هذا سوف يؤدي الى تخفيض معدل الفائدة، وبالتالي زيادة حجم الاستثمار، ومن ثم زيادة نسب الناتج والعمالة اللذين سيؤديان بالنتيجة الى العمل على رفع معدل التضخم (inflation rate) او المستوى العام للاسعار (general level of prices). وبهذا يكون كينز قد اوجد ما يسمى بالنظرية المتكاملة للنقد والناتج والعمالة والاسعار (integrated theory of money, output, employment, and prices) التي تخالف بمضمونها ومحتواها وجوهرها وافتراضاتها ومقترحاتها نظام العالمين الكلاسيكي (the classical two-worlds system) الذي يضع الناتج والعمالة في كفة، والنقد والاسعار في كفة اخرى. فبيد ان العمالة والناتج يتم تحديدهما من خلال التحكم بمعدلات الاجور وسعر الفائدة، فان مستوى الاسعار يتم تحديده فقط من خلال المعروض النقدي.
وفيما يتعلق بالدور الفاعل للحكومة وضرورة تدخلها (government intervention)في تحديد مسار الاقتصاد او التحكم في مجرياته، يقول كينز ان الميزانية الحكومية (government budget) تعتبر الية شديدة الاهمية في تنظيم الطلب الكلي (regulating aggregate demand). فاذا كانت العمالة اقل من كاملة، فان رفع نسبة الطلب الكلي ممكن ان يتم اما من خلال زيادة النفقات الحكومية (government expenditures) او من خلال العمل على تخفيض معدلات الضريبة (tax cuts)، اي من خلال تبني الحكومة لسياسات مالية (fiscal policies) بدلا من الاخذ باجراءات نقدية (monetary measures) كتغيير معدلات اسعار الفائدة/الخصم الرئيسي، او رفع الاحتياطيات الالزامية/الاجبارية (reserve requirements) للبنوك التجارية لدى البنوك المركزية، او اصدار سندات او اذونات خزينة (treasury bonds or notes) مثلا، اذ ان مثل هذا التوجه (اي تبني الحكومة لسياسات نقدية) قد لا يكون فعالا جدا، لا سيما في حالات الكساد الاقتصادي الشديد (severe economic depression). ويضيف كينز انه اذا ما اردنا ابقاء الاقتصاد قريبا من حالة العمالة الكاملة، فان الحكومة يتعين عليها ايضا تحمل مسؤولية تنظيم الطلب الكلي او الاجمالي، وذلك من خلال التدخل المباشر والفاعل للمؤسسات الاقتصادية (direct intervention of economic institutions) من اجل ممارسة التاثير اللازم على دورات النشاط الاقتصادي (business or economic cycles) والعمل على تصحيح اية عيوب او انحرافات في مساراته او مجرياته التقدمية (progressive courses).