التلفزيون
تقنيّة تصنعنا أكثر ممّا نصنعها
د. عبداللّه الزّين الحيدري.
حقل الجاذبيّة في مؤلّف " الصّورة والتلفزيون
" (كتابنا الأخير)، يتمثّل في دراسة العلاقة بين المرتكز المادّي والمضمون
الإعلامي، وهي علاقة على غاية من التركيب نظرا لتداخل الحقول المعرفيّة التي تدرس طبيعة المرتكزات في علاقاتها ببناء المعنى
وصناعة المضمون.
إنّ الأصل في الصّورة التلفزيونية يعود إلى الذّهن الذي
يمثّل موطن تشكّلها و عماد تركّبها، و اٍنّ ما تفيده من معاني و مقاصد لا ينتسب مباشرة إلى ما للأشياء و
الموجودات من دلالات، إنّما تحدّده صورة الأشياء في الذّهن التي تختلف باختلاف المرجعيّات. و لمّا
كانت الأشياء و الموجودات
لا صورة لها إلاّ في الذّهن، منه تستمدّ معانيها و تتمايز أجناسها و أشكالها، كان تصويرها مناسبا لهيآتها فيه
لأنّ وجودها في حدّ ذاته مشروط به فهو المدرك لحقيقتها و طبيعتها.
فالصّورة التلفزيونية تبتدئ من الذّهن تشكّلا و اٍليه
تعود صناعة تامّة
مشحونة بالرّسائل الموجّهة و القيم. و الأجهزة الإلكترونية المعتمدة لضبطها، و تأليفها، و نقلها،
إنّما هي وسائط تدفع بالمتصوّر و المصوّر إلى الظهور و إحداث التأثير، و لها من الطواعية ما
يسمح، عند الاقتضاء، بتحويل الصّواب إلى خطأ و الخطأ إلى صواب.
فالتلفزيون يعدّ وسيطا يصنع الواقع ويحرّفه عند الاقتضاء
وإنّه لمن الخطأ
اعتبار ما يبثّه التلفزيون نقلا للواقع أو صورة له. فالنّقل عمليّة
يتمّ بمقتضاها
تحويل الشّيء من سياق إلى آخر دون السّعي إلى تحريف ما للأشياء من صفات تميّزها.
و قد يتباين هذا التعريف مع حقيقة التلفزيون بوصفه وسيطا
له وظائف تتجاوز
مجرّد النّقل. فالتلفزيون، عندما ينقل أحداث المجتمع و تجاربه إنّما يصوّرها تصويرا ملائما لما في
أذهان القائمين بالاتصال من رؤى و توجّهات يقوم عليها النظام الاجتماعي حتى لو أدّى ذلك الى
تزوير ما للأحداث و التجارب من خصائص محيطة بها، لأنّ منطق الاٍعلام الجماهيري إنّما يقتضي الأخذ في الاعتبار بطبيعة
القوانين التي تحكم المجتمع قبل الاعتناء باحترام القوانين التي تحكم سير الأحداث و التجارب،
و هذا ما يجعل من التلفزيون نظاما، لا تنحصر وظيفته في حدود تصوير الواقع بل و صناعته أيضا.
• قراءة جديدة في مفهوم الخبر التلفزيوني
نعرّف الخبر التلفزيوني على أنّه تحويل المألوف لواقع
غير مألوف. فأصل
القضية، راجع إلى كيفيّة تحويل المألوف إلى مادة إخباريّة جديرة بالمتابعة. فالعمليّة هي إذا
مرتبطة بتحديد ضوابط علميّة يتم بمقتضاها تحليل الواقع المعيش و تركيبه بما يخدم ديناميّة
التطوّر الاجتماعي و يستجيب إلى انتظارات المجتمع.
إنّ الواقع المعيش، وهو بطبيعة الحال الواقع المألوف، لا
ينبغي إدراكه على
أنّه الواقع الثّابت المستقرّ أبدا في الحاضر. إنّه جوهر يتغيّر و يتطوّر،و له جذوره في الماضي
و آفاقه في المستقبل. و لكونه جوهرا قابلا للتطوّر و التغيّر في كل حين، تبقى ملامح التغيّر
فيه غير واضحة للأفراد الاجتماعيين، أو هيّ واضحة و لكنها مثيرة، بالنّظر إلى ما تحدثه من إضافة تحرّك ما في الواقع من سكون و
رواسب. فالمألوف حينئذ مجال دينامي تخترقه أبعاد زمنيّة، بعد يحتضن الفعل الاجتماعي، وبعد
يدوّنه و يحفظه، و آخر يحوّله إلى المستقبل.
و تقتضي المعالجة الإخبارية المعرفيّة للواقع المألوف،
في نظر المؤلّف،
الأخذ بحقيقة تقاطع الأزمنة المذكورة لكي لا يفهم المألوف على أساس
أنّه جوهر سكوني،
لأنّ الأخبار مثلما يذكر ابن خلدون " إذا اعتمد فيها على مجرّد النقل(...) و لا قيس
الغائب منها بالشّاهد و الحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور و مزلّة القدم و الحيد عن
جادّة الصدق "(4) و إنّ ما يحول دون إقبال المشاهدين على متابعة البرامج الإخبارية من خلال القنوات المحلّيّة، هو اكتفاء
ذات القنوات بالعروض الخطّيّة لمضامين
الأخبار التي تفتقد إلى التحاليل المعمّقة و التحقيق المبني بشأن ما يستجدّ من أحداث.
ويؤدّي الاعتناء بفحص تقاطع الأزمنة في حدود الواقع
المعيش إلى اشتقاق غير المـألوف من المألوف. فالاستهلاك مثلا حقيقة
اجتماعية يعيشها الأفراد، و لا شيء في ظاهرها يمكن أن يجلب الانتباه باعتبارها سلوكا يوميّا طبيعيّا. و لكن ما يمثّل
قيمة أساسيّة في هذا السّلوك العادي يدور حول أسئلة ثلاثة : ماذا نستهلك ؟ كم نستهلك ؟ و أين
يتّجه الاستهلاك ؟
إنّ المجتمع بحاجة إلى إعلام يفسّر الحاضر بـ "
دفعه " إلى الأمام، و يعالج الواقع انطلاقا من فحص الأزمنة التي تتجاذبه،
لأنّ الأحداث، في ارتباطها بالأمكنة، مسرح الحدوث، هي غير معزولة عن أزمنة تفسّر خلفيّة الحدوث.