علم الاجتماع وفوضى الاجتماع " ….
إن الولايات المتحدة تدعو العالم إلى نظام دولي جديد… ". هذه هي العبارة المركزية التي نطق بها الرئيس الأمريكي جورج بوش في أول خطاب له بعيد انتهاء حرب الخليج الثانية (1991) بأيام. ومنذ ذلك الحين وهي تثير الفزع، ولا شك أن أشد ما يثير الفزع هو محاولات الولايات المتحدة فرض ما بات يعرف بالعولمة، هذا المصطلح الذي يتشكل دون أن يتمكن أحد من تعيينه أو التنبؤ بالمدى الذي يمكن أن يصل إليه.
ولا ندري: أية مكانة سيتبوؤها المجتمع والدولة في ظل تصاعد ضغط العولمة؟ ولا: العلاقة التي سيجري التعبير عنها بينهما في ظل التحديات التي تفرضها العولمة على كليهما؟ ولكننا كسوسيولوجيين نتساءل: كيف تعامل علم الاجتماع مع ظواهر مثل المجتمع والدولة؟ وما هو الدور المنتظر منه والمشتغلين به في ظل ظاهرة السوق؟ تهدف هذه المقالة عبر محورين إلى:
* الإحاطة بعجالة بالكيفية المنهجية التي تصدى بها علم الاجتماع للتحولات الحضارية الكبرى في العالَم الاجتماعي ماضيا وحاضرا معتمدين في ذلك على بضعة من رواد السوسيولوجيا ممن شكلت إسهاماتهم علامات فارقة في تاريخ النظرية الاجتماعية أمثال ابن خلدون وكارل ماركس وإميل دوركايم وتالكوت بارسونز وجورج بالاندييه وألن تورين وماكس فيبر… إلخ
* تلمس قدرة علم الاجتماع على مجابهة الظواهر المستجدة.
المحور الأول: إشكالية المنهج في علم الاجتماع إن الحديث عن علم الاجتماع هو في الواقع حديث عن المنهج إلى حد لا بأس به. ولعمري أننا إزاء إشكالية رافقت ميلاد السوسيولوجيا حينا من الدهر ولما تزل منذ ابن خلدون وإلى يومنا هذا. ولو دققنا في تاريخية العبارة الشهيرة"
العمران البشري والاجتماع الإنساني" التي هي:"
علم مستنبط النشأة… والكلام فيها مستحدث الصنعة " لوجدنا أنها في سياقها وحقيقتها ليست سوى تقنية منهجية في كتابة التاريخ بأسلوب خلدوني مبتكر. فمنذ عهد "
المقدمة " لم تعد كتابة التاريخ سردا للوقائع والأحداث أو الإخبار عن العمران والأحوال. ولئن كان التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار فهو عند ابن خلدون "
في باطنه نظر وتحقيق ".
لا ريب أن هذه المنهجية نقلت علم التاريخ من طور التزييف والنقل واللاموضوعية إلى طور منهجي جديد يعتمد المشاهدة والقياس والتثبت وإعمال العقل، وهي تقنيات عبر عنها ابن خلدون بـ"
المطابقة " كقانون "
في تمييز الحق من الباطل في الإخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه…هذا هو غرض الكتاب الأول من تأليفنا ". هذا ما يصرح به ابن خلدون، وهو ما حدا به إلى لوم المؤرخين ومعاتبتهم بل إلى توجيه نقد لاذع وصارم لمن مارس منهم كتابة التاريخ عبر النقل الأعمى ولمن زلّ إرضاء لذاتيته أو انحيازا لهذا الطرف أو ذاك في تزلف صارخ للسلطة ميز كل عصر ومنها عصر ابن خلدون الذي اشتهر بالعفن السياسي في بلدان المغرب العربي خاصة.
والآن، أليس حري بنا أن نتساءل عما إذا كان ابن خلدون ربما يكون قد اكتشف منهجا وليس علما؟ أو على الأقل بالقدر ذاته الذي اكتشف به علما؟ إن الحد الأقصى للإجابة يتجرأ على اعتبار السوسيولوجيا هي في الحقيقة علم في المنهج موضوعها "
العمران البشري والاجتماع الإنساني ". وهذا الاعتبار ليس مقامرة بقدر ما يعبر عن حقيقة إشكالية معقدة نشأ علم الاجتماع الحديث بين ظهرانيها ابتداء من
أوجست كونت الذي خاض صراعا مريرا لتأكيد فعالية مناهج التفكير الوضعية على حساب المناهج الماورائية والتجريدية ووضعه أسس ومعايير لسلامة البحث العلمي وعلامات فارقة لقياس التقدم الاجتماعي، وحتى
إيميل دوركايم الذي أخذ على عاتقه وأنصاره تثبيت علم الاجتماع ومجابهة أطروحات المدرسة النفسية التي أنكرت وجود ظاهرة اجتماعية، فما كان منه إلا التحصن بالأدوات المنهجية لاسيما الإحصائية منها والتي تمكن بواستطها من هزيمة المدرسة النفسية وتوجيه ضربة ساحقة لها عبر بحثه "الانتحار".
أما الحد الأدنى فيقر بوجود إشكالية من هذا القبيل ساقت علم الاجتماع الحديث إلى مجاهيل معقدة ومتشعبة تشبه في نشأتها الآلية التي تشتغل بها النظرية المالتوسية. فالجماعات والمجتمعات يتوالدان ويتطوران بما لا يتناسب البتة وحجم الظواهر الاجتماعية الناشئة عن التحول في العمران البشري أو المصاحبة لأي اجتماع إنساني.
مثل هذه الوضعية تدفعنا للتساؤل عما إذا كان بمقدور السوسيولوجيا أن تفسر لنا تعاقب الأجيال والدول والحضارات والحركات السياسية والعصبيات بأكثر مما فعل ابن خلدون؟ في واقع الأمر، وكسوسيولوجيين عربا، يبدو الأمر وكأننا لا نجد رصيدا معرفيا أبلغ أثرا وثراء مما خلفه لنا ابن خلدون، وإلا فلماذا يجهد الفكر السوسيولوجي العربي بإحياء التراث الخلدوني لا سيما المتعلق منه بالمجتمع والدولة؟ ولماذا يستعين السوسيولوجيون العرب بالفكر الخلدوني لمحاربة الحركات الإسلامية؟ ألأن ابن خلدون يصرح بأن نظام الخلافة الإسلامي كان مرحلة في التاريخ الإسلامي ليس إلا كما يقول المفكر المغربي
محمد عابد الجابري في العقل السياسي؟
ولنتساءل ثانية: هل نحن إزاء معرفة اجتماعية كافية لتطور السوسيولوجيا؟ ألا يبدو الرصيد المتوفر منها بارعا بإثارة كل لبس وإبهام؟إذا كانت الإجابة بنعم، فبماذا نفسر ولادة علم اجتماع المعرفة؟ وهو العلم الذي أدخل السوسيولوجيا في أزمات خانقة على الدوام لم ينج منها أحد من المشتغلين به سواء كانوا طلبة أو باحثين أوحتى أساتذة وعلماء؟ فالكل بات يعاني من اللبس والإبهام والغموض، الأمر الذي أدى إلى التقوقع وتأخر مسيرة البحث العلمي وبالتالي تراجع مكانة السوسيولوجيا عالميا كما أقر بذلك مؤتمر مدريد 1994.
على أية حال فأيا كانت التقسيمات المتعلقة بالنظريات الاجتماعية فالكائن منها، حتى وإن كان، ضمن أشكال الموجودات المختلفة في العالَم الاجتماعي، يسمح بالتمييز بين المجتمعات والفاعلين.