الثقافـة وتحـولات مفاهـيمها
د. مازن عرفة
يُعد مصطلح "العولمة" من أكثر المفاهيم بروزاً وفاعلية في مختلف المجالات منذ نهاية القرن العشرين، وخاصة في ارتباطه مع مفهوم الثقافة من خلال "العولمة الثقافية" والحديث المتداول عن إمكانيات التنميط الثقافي على المستوى العالمي. وإذا كان ينظر عادةً إلى العولمة في مستوياتها الأولى من خلال رؤى اقتصادية ومالية وسياسية إلا أنها أصبحت تمس الآن جميع الظواهر التي يمكن تعميمها على العالم، العلمية والتقنية والإتصالاتية والعسكرية والإعلامية والرياضية.
والعولمة بمعناها الأولي هي تعميم ظواهر معينة من مجالات النشاط الإنساني على مستوى العالم ككل، ولكنها في جوهرها تتعلق بتشكل وعي كوني جديد في الشروط التاريخية الحالية، يتجاوز بشموليته الأشكال السابقة للوعي، القومي أو الوطني أو الإجتماعي. وقد ارتبطت فكرة التعميم هذه تاريخياً وبدرجة رئيسية بالإكتشافات التقنية الأولى في مجال المواصلات والإتصالات، التي سمحت بانتشار أفكار ورؤى وأساليب حياة وما يتعلق بها من أدوات ووسائل تقنية، وذلك على مستوى العالم كله.
إن اختراع العجلة في العصور القديمة هو ابتكار يمثل نقلة نوعية في حياة البشرية، باستخداماتها العملية ونتائجها الإقتصادية والإجتماعية. فقد قربت العجلة بارتباطها بمفهوم النقل والمواصلات بين التجمعات البشرية الحضارية الأولى، وإن كان ذلك ضمن حيز جغرافي محدود. وسمحت بالتالي بزيادة وتوسيع المبادلات التجارية والإتصالات الثقافية بصورة أفضل بين تلك التجمعات ضمن الشروط التاريخية السائدة آنذاك.
ولكن توسع العلاقات المختلفة بين المجتمعات كان يزداد مع تطور وسائل المواصلات، وبشكل أساسي مع اكتشاف المحرك البخاري. فكان انتشار السكك الحديدية والسفن البخارية تعبيراً عن التسارع في تقريب العالم الجغرافي كله مكانياً، ودفعه بطريقة متزايدة نحو التوحد، وهو ما ارتبط أساساً بحقبة الثورة الصناعية ونتائجها. وبالتالي فإن العولمة ببدايتها الحديثة تعود إلى هذه الحقبة بما شهدته من توسع كبير للعلاقات الإقتصادية بأسواق عالمية وانتشار أنماط تفكير وحياة موحدة على مستوى العالم، وهو ما عاش مع التوسع الإستعماري الأوربي الحديث ومتطلباته الإقتصادية.
لقد ارتبطت عولمة ظواهر معينة في الحقبة الصناعية بشروطها التاريخية، وبشكل خاص بمستوى العلاقات الإقتصادية السائدة وسرعة ونوعية التبادل الإتصالاتي ووسائل الإنتقال المكاني الموجودة حينذاك. إلا أن العولمة، كظاهرة حديثة بدأت تجتاح حياة الأفراد والدول والمجتمعات بوتائر سريعة، برزت في نهاية القرن العشرين حيث شاع مصطلحها بكثافة وبنحو مباشر. ويعود انتشارها هذا بالدرجة الأولى إلى التطور الذي وصل إليه النظام الرأسمالي الحديث وحاجات أسواقه الكونية الجديدة وتطلعه إلى خلق "المواطن العالمي الإستهلاكي". وكان لهذا الفهم الجديد للعولمة أيضاً أسسه الفكرية والمعرفية الحديثة من خلال أسطورة "القرية الكونية" الواحدة، التي توحد العالم كله بأجزائه المختلفة، وتوفر الإمكانيات الكبيرة للتواصل الإنساني والنقل المعرفي. أما الأساس التقني- الإتصالاتي للعولمة بمفهومها المعاصر فيقوم على شبكات الإتصالات العالمية (الإنترنت) والأقمار الإصطناعية والألياف البصرية، التي ربطت العالم بطرفياتها المنتشرة في كل نقاطه وجعلته أكثر إحكاماً وتقارباً بحيث صار من الممكن العيش في مناطقه كلها في الوقت نفسه.
وقد فتح التقدم التقني المجال للعولمة أكثر فأكثر لبث الأفكار والرؤى وإقحامها بقوة وفاعلية داخل كل البنى المُغلقة المُنغلقة على نفسها، جغرافياً وسياسياً وثقافياً.
وبالتالي فإن المنظومات المعلوماتية- الإتصالاتية الحديثة باستخداماتها الشاملة خلقت أيضاً طرائق لسيطرة جديدة يمكن أن تمارسها أطراف على أطراف أخرى، وشكلت بهذا المعنى الأداة التقنية القوية لتأكيد سيطرة القطب الأقوى تقانياً على العالم في النظام العالمي الجديد.
وإذا كان الأساس التاريخي للعولمة هو نشر ظواهر معينة على مستوى العالم المعروف في فترة معينة فإن كل قوة مسيطرة، وسمت عصراً ما بسماتها، قامت بنشر عولمة بعض مظاهر حضارتها وثقافتها على مساحات كبيرة من العالم، بالإرتباط مع توسعها العسكري وهيمنتها السياسية والإقتصادية. ويقدم لنا التاريخ نماذج عديدة ومتنوعة منها، بدءاً من حضارات بلاد الرافدين مروراً بالحضارة اليونانية وحتى الحضارة الصينية. وهو ما ينطبق أيضاً على الحضارة العربية- الإسلامية التي عولمت أو "أسلمت" بقاعاً شاسعة من عالم القرون الوسطى. إلا أن ما حدث مع الكشوف الجغرافية الكبرى في عصر النهضة والثورة الصناعية وما رافقهما من انتشار للإستعمار الأوربي هو الذي اعطى العولمة معناها الحديث، والقائم على أساس نشر النمط الحضاري البرجوازي الأوربي بنظامه الرأسمالي. غير أنه منذ نهاية الحرب العاليمة الثانية وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة سياسة وإقتصادية وعسكرية مسيطرة على العالم ووريثة النظام الرأسمالي الأوربي أصبحت العولمة مرتبطة بها، بحيث يتماهى مفهوم العولمة اليوم إلى درجة كبيرة مع أمركة العالم.
وهكذا فإن العولمة الآن تمثل في أحد أوجهها تعبيراً عن التطور النوعي الذي وصل إليه النظام الرأسمالي حالياً- أو ما يسمى بالنظام العالمي الجديد- من خلال استخدامه الفعال للمنظومات الإعلامية الجديدة بغية تنميط المجتمعات التابعة والتحكم بحياة أفرادها بطرق أكثر فاعلية من أجل استغلالها اقتصادياً. ولا يعني هذا التخلي عن أشكال السيطرة لقديمة بما فيها التدخلات العسكرية المباشرة للوصول إلى أهدافه الإقتصادية، فقد بقي الأساس واحداً رغم اختلاف الشعارات والأهداف المعلنة. وهكذا فإن الحديث عن "تحضير" مناطق العالم المتخلفة عن طريق "استعمارها" صار يدور الآن حول نشر "الديمقراطية" و"مكافحة الإرهاب". وأصبح الإطار الجغرافي السياسي للعولمة يشمل العالم باسره عبر التوصع النوعي لنشاطات الإحتكارات العالمية، التي تستند إلى القاعدة العلمية- التقنية الجديدة في ثورة المعلومات والإتصالات في إدارة نشاطاتها المنتشرة في مناطق متعددة متباعدة جغرافياً عن بعضها. وقد ارتبط هذا التطور في سيرورة النظام الرأسمالي بالتغيرات التي أصابت العالم على المستويات جميعها في نهاية القرن العشرين وانعكست على حياة المجتمعات المعاصرة، بحيث غدا هو المهيمن في الشروط التاريخية الحالية، وأصبح الحديث يدور حول "النظام ما بعد الرأسمالي" أو "النظام الرأسمالي ما بعد الحداثي" في إطار نظام العولمة.
يقترح الدكتور صادق جلال العظم تعريفاً عاماً وأولياً للعولمة بأنها "هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء، في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ". وهو يرى أن التطور في النظام الرأسمالي قد تمكن من تجديد آليات عمله وحيوياته وفق سيرورات مرتبطة بإيجاد حلول لإشكالياته الطارئة الجديدة، مثل التراكم الكبير للفائض من رؤوس الأموال والآثار السلبية التي تتركها صناعاته الثقيلة على البيئة، وقد وجد بعض تلك الحلول خارج النطاق الجغرافي للمركز الرأسمالي. ومن أجل تحقيق ذلك كان ينبغي إدخال مجتمعات الأطراف أو دول الجنوب في سياق هذه العمليات، وهو ما يفرض تكيفات بنيوية في هياكلها الإقتصادية وفق شروط ومصالح هذا المركز. وينبغي الإشارة هنا إلى أن نظرية المركز الرأسمالي والأطراف التابعة بدأت تفقد بعضاً من ألقها في العالم المعاصر بسبب تداخل المواقع الجغرافية لمناطق الإنتاج المرتبطة بالإحتكارات العالمية وما يترتب على ذلك من آثار إجتماعية وإقتصادية.
يرى الليبراليون الغربيون أن العولمة في جانبها الإقتصادي هي سيادة رأسمالية السوق الحرة داخل جميع الدول، وهو ما يخلق بالنتيجة تكاملاً بين جميع الأسواق بحيث تتحول في النهاية إلى سوق كونية واحدة. والعولمة بهذا المعنى تمكن الأفراد والشركات والدول نفسها من الدخول في عمليات الإنتاج والتبادل التجاري بصورة أسرع وأكثر شمولاً وعمقاً مع انخفاض كبير للتكاليف. ويحدث هذا في إطار إقتصاد كوني متكامل يتميز بالإنفتاح والخصخصة والتجارة الحرة التي تخضع لقوانين التنافس والعرض والطب. ويرى الأمريكي توماس لـ. فريدمان أن الفرص في نظام العولمة الجديدة أصبحت مفتوحة أمام جميع الدول، بما فيها دول الجنوب أو الدول النامية، بسبب ما يسميه انتشار ثلاث ديمقراطيات، هي ديمقراطيات التمويل والتكنولوجيا والمعلومات وإتاحتها للجميع. وقد ارتبط هذا بانهيار "سور برلين" برمزيته وانهيار كل الأسوار الرمزية الأخرى من مخلفات الحرب الباردة.
ويرى فريدمان أن هذا الديمقراطيات الثلاث ستسمح بعولمة الإنتاج، وهو ما يعني اختفاء العملية التقليدية القديمة المتمثلة في توريد المواد الأولية من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية من أجل تصنيعها وإعادة تصديرها إليها على شكل سلع. ليحل مكان ذلك إمكانية دخول الجميع إلى العملية الإنتاجية في إطار السوق الكونية من خلال إتاحة فرص الجمع بين التكنولوجيا والتمويل الخارجي والمعلومات إضافة إلى المواد الأولية.
تمثل رؤية فريدمان وجهة نظر الأقوياء المسيطرين على العالم دون الأخذ في واقع الأمر بوجهات نظر الدول الفقيرة ومتطلباتها أو بالتداعيات السلبية لهذه العولمة على حياة مجتمعاتها وأفرادها، وخاصة مع تشكل أسوار رمزية جديدة تفصل بين المجتمعات المسيطرة القوية والمجتمعات الضعيفة.
ففي نظام العولمة لابد من حدوث تكيفات بنيوية داخل الإقتصاديات التابعة في الدول الفقيرة كي تنتظم في مسار السوق الكونية المعولمة. وهذه التكيفات البنيوية لابد لها من أن تستدعي تغيرات وتبدلات على المستويات الإجتماعية والثقافية في حياة مجتمعات وأفراد هذه الدول، تتمثل في تعميم أنماط ورؤى جديدة تتعدى الإقتصاد إلى البنى العضوية للمجتمع وإلى منظومة القيم الثقافية الخاصة به.
وتكمن الإشكالية في هذه الأنماط الجديدة المفروضة من المجتمعات القوية في أنها تظل غريبة عن النسيج الإجتماعي المتلقي لها وليست من نتاجه، وهو ما يؤدي إلى تفككه في حال غلبة القادم الجديد. ومن هنا فإن السوق الكونية تحاول أن تفرض رؤاها الشاملة في المجالات كافة، والتي تدعم بالنتيجة آليات سيطرتها الإقتصادية. ليصبح الحديث ليس فقط عن عولمة إقتصادية، بل وسياسية وثقافية وعسكرية وتقنية وإتصالاتية، تشمل معظم مجالات الحياة.
وبوجه عام فإن الحديث يدور هنا حول عولمة شاملة لكل ما يسعى الغرب الرأسمالي إلى تعميمه حالياً من قيمه وآلياته على المجتمعات الأخرى، وفق مصلحته الخاصة وضمن الشروط التاريخية الحالية.
ويتم هذا بالنتئجة عبر التداخل بين موضوعية انتشار ظاهرة العولم وارتباطها مع مصالح القوى المسيطرة حالياً على العالم. وهكذا فحين يدور الحديث عن العولمة الثقافية مثلاً لا ينبغي إهمال التأثيرات المتبادلة بينها وبين الأبعاد الأخرى للعولمة سبب هذه العلاقة الجدلية بين عناصرها.
المصدر: كتاب سحر الكتاب وفتنة الصورة