جبار محمود
عادةً.. لا تتسم الدعاية الإعلامية بتوضيح الفكرة الأساسية لمأربها، فهي تقدم نموذجها عبر وسائل الأعلام كي تستميل أكبر عدد من الناس، ليكونوا (من حيث لا يدرون).. وسطاً ترويجياً ناقلاً لها، و مؤثراً على اتجاهات حياديّة الرأي العام.
الدعاية الإعلامية.. وسيلة اجتذاب
الزخم.. المعلوماتي الهائل.. السائد في وسائل الإعلام المسموعة و المرئية، أضحى من الظواهر التي تُثير تساؤلاً مُلحاً ذا مفاد يقول – هل إن المجتمعات بحاجة فعلية حقاً لتلقي كل هذا الكم من النشاطات الإعلامية، المحاطة بدعايات الترغيب لاعتمادها كضرورات حياة قصوى، خصوصاً و إن هناك ما يزيد الاعتقاد رسوخاً بأهمية التوجّه لاعادة ترتيب بعض الأوضاع الإعلامية، إذ من الملموس أن لا فائدة حقيقية ممكن كسبها من أي دعاية تتعلق بمدى شرعية توظيفها سلبياً، بُغية تضييع حق عام، أو النّيل من واقعة عادلة، و بساعد على ذلك أجواء المرحلة السياسية الراهنة التي أقحمت بتطفلها و فضولها كل مجال، بحيث أشبكت معظم نشاطات الإعلام و الثقافة في بوتقة واحدة تخلوا في الغالب من المعايير النوعية، و من هنا جاءت الضرورة المتأملة للعثور على ما يصلح أن يكون بديلا أفضل و مُعبّراً عن الطموح المجتمعي و لو في حده الأدنى الممكن استحصاله، فهذا زمن يتقدم بمادياته و يتراجع عن روحانياته، و يكاد يبدو للخلل الإعلامي فيه معالم لها مدارس و دعاة، و ضمــن هذا السياق لــعموم الإعلاميات، تأتي الدعاية الإعلامية الباثة و الناشرة، لتضع بعض عيناتها (شريط صوري أو شريط صوتي أو متن كتاب أو دورية مجلة...)، وهي حاملة المخاطر في جوانب من مضامينها، التي لا تمنحها العقول الراجحة وزناً حــقيقياً أو تأيــيــداً مؤكداً، كما لا يمكن أن تودع النفوس السوّية تلك المضامين بين جنباتها، فبديهية التفكير الواعي لا تستحسن اعطاء أي دور مُشجع للسارق من معنويات الناس، بنفس القدر الذي ترفض فيه سرقة حقوقهم الشرعية المكتسبة و منها في مجالي الثقافة و الإعلام.
الكلام.. المنمّق المباشر الذي تقدمه الدعاية الإعلامية، لم يعد مقنعاً في كثير من الاحيان، إن لم يكن مرفوضاً لدى شرائح عديدة من المجتمع، بعد أن أصيب الناس المتابعون بتخمة إعلامية إذ يحيط بهم الإعلام بأكثر من جانب في البيت و المدرسة و الدائرة و النادي و الشارع. لذا فقد وعت الجهات الإعلامية بأغلب مدارسها إلى ضرورة أن تبذل جهدا تكتيكيا كافياً، للتعريف بخطوط نهجها و منطلقات برامجها فجاءت الدعاية الإعلامية كحالة تسييد و تداول، مقدمة عبر وسائل و أساليب اجتذاب متجددة و منوعة، لتعوّض عن شيء ما يستهدف تحويل سيكولوجيا المتلفين للإعلام إلى جادة الدعاية الإعلامية المعروضة.
الدعاية... سلب و إيجاب
تؤدي الدعاية الإعلامية بوصفها عينة معلوماتية غايتها في التوصيل، متى ما عكست اهتماماً اجتماعياً بها، و أياً كانت لاسباب فان من تحصيل حاصل أي دعاية إعلامية، مهما صغرت أو كبرت في سلبيتها أو إيجابيتها، فتجد لماهيّتها سقفاً تقف تحته جمهرة من الناس، و بالذات منهم المعانون من تدني المستوى في درجات الوعي و الإدراك، الذين يمثلون قوة ضغط عشوائية في كل مجتمع.. و تشير وقائع التأثير إن اغلب العروض الدعائية الإعلامية، تحمل شحنة ما كافية للسيطرة على جزء من الألباب، و تمثل الدعاية الإعلامية الغربية ضد المسلمين و العرب على وجه القصد، و بسابق إصرار، ما يصل إلى حد توجيه الإهانة للدين الإسلامي و الاستهانة برموز مقدسا ته الثابتة، إذ غالباً ما تتخذ تلك الدعايات الإعلامية السلبية المعادية شكلاً مستهجناً، سواء ما يأتي عبر برنامج تلفزيوني أو تعليق إذاعي، أو تعقيب صحفي، أو إعلان تجاري، أو حتى عند اختيار اسم مدون على لافتة محل.. فعلى سبيل المثال تنتشر في العاصمة البريطانية – لندن - محلات متخصصة في إعلان نتائج الأرقام الفائزة في سباقات الخيل، إضافة لممارسة بعض العاب القمار والتسلية فيها، و الغريب حقاً أن اسم (Mecca) أي مدينة مكة.. قد اختير ليكون اسماً لتلك المحلات، و طبعاً هو مدوّن بالحروف الإنكليزية و قد اختير لها أن تكون بارزة (نافرة)، ذات لون أحمر، و على قاعدة لافتات مطلاة باللون الأبيض، و بقياس يبلغ زهاء (200 × 50سم) ترتفع على واجهات المحلات الآنفة. و معلوم أن الأحمر و الأبيض يمثلان لونين من مجموع الألوان الثلاثة للراية البريطانية (الأحمر و الأبيض و الأزرق).. و من المؤكد فان اختيار اللونين الأحمر و الأبيض، الرمزين في الراية البريطانية و اعتمادها على تلك اللافتات البائنة للعيان، و المطلة على بعض شوارع لندن، هو نوع من الدعاية البريطانية المجة و الوقحة ضد مشاعر عموم المسلمين و العرب.. الذين تعيش بريطانيا على الخيرات المنهوبة من بلدانهم، فلماذا يتجاهل وجهاء المسلمين و العرب.. و بالذات منهم المتواجدون على الجزيرة البريطانية، هذه الإهانة العلنيّة المستمرّة منذ ما ناهز على (18 سنة).. و المناوئة لمدينة إشراقة دين و قبلة الإسلام (مكة المكرمة).
هذا.. و ضمن ازدواجية الدعاية الإعلامية البريطانية، المستهدفة كسب الرأي اللاواعي في العالمين الإسلامي و العربي للصف التكتيكي البريطاني بهذا المجال، يُلاحظ أن بريطانيا قد أجازت فتح عدد من المساجد و المؤسسات و الجامعات الإسلامية… على أراضيها. فيا للقابلية!
الدعاية... حاجة لا فروض
للدعاية.. الإعلامية و ملحقيها (الإعلانات) و (الأفلام).. و على قدر ضئيل (أسماء المحلات).. أدوار فاعلة، تؤدّى في وسائل الإعلام المختلفة بغض النظر عن مدى حاجة الجمهور المتلقي لها، باعتباره صاحب المصلحة الحقيقية في كل العروض الإعلامية، لكن الواقع الإعلامي و المعلوماتي يفرض هيمنته بديمومة عجيبة. وتحت ضغوط مضادة غير معلنة، من قبل الرأي العام في البلدان النامية، بادرت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، عبر لجنة خاصة تابعة لها تُدعى »اللجنة السياسية الخاصة«.. لتمحيص الطروحات التخريبية الممكن أن تلحقها وسائل الإعلام الغربية و الصهيونية بمصالح بعض بلدان العالم النامي، فاتخذت الجمعية العمومية... على عاتقها، مناقشة مسألة التبادل الدولي بالمعلومات و قد أُقرَ في اجتماع عام عقدته لهذا الغرض بإحدى مقراتها الرسمية، بان دوائر الإعلام في البلدان الرأسمالية و (إسرائيل) تستخدم وسائل الإعلام الجماهيري، لتوسيع الدعاية للروح العسكرية، و تبرر تصعيد العمليات العدوانية، و التدخلات الغاشمة ضد الشعوب و البلدان النامية بصورة غير مقبولة.
ويبدو ..أن اجتماع الجمعية العمومية لهيئة الأمم... كان منصّباً لامكانية تلافي ما سيؤدي إليه الإعلام الغربي و الصهيوني، من نتائج تفاقم الصراع النفسي بين المجتمعات في الشرق و الغرب فيما لو استمر على منواله. وبين الحاجة الحقيقية للإعلام.. و فروض الواقع الإعلامي الدولي، عقد ممثلوا الإعلام في الدول الرأسمالية الغربية مؤتمراً استثنائياً، بمدينة (تلوار) الفرنسية في أيار 1981م، اصدروا على أثره بياناً شهيراً سمي بـ(بيان تلوار).. جاء في حيثياته .. إن الموقعين على البيان قرروا رفض كافة المبادرات الدولية المُطالبة بتنظيم عمل و نشاط مضامين وسائل الإعلام الجماهيري، و أكدت فقرة في البيان المذكور بشمول ذلك حتى المبادرات الصادرة عن جهات دولية معترف بها.. كمنظمة التربية و الثقافة و العلوم (اليونسكو) ..إحدى منظمات هيئة الأمم المتحدة و غيرها. و يلاحظ من بعض المعطيات، ان وضع هذا الحاجز النفسي الرافض للتعاون الإعلامي الدولي الإيجابي من قبل الغرب، قد تمخض عنه ابتعاد جديد بين المجتمعات الشرقية و الغربية، بدلاً من التقارب العقلاني و الموضوعي المنشود على مستوى العالم، و لا يخفى أن الإعلام الرأسمالي الذي تسنده السياسات الغربية بلا حدود، جعل مفكريه البرجوازيين يشعرون عبر توصيل نشاطاتهم الإعلامية إلى مرابع البلدان النامية التابعة، و كأنهم في بيوتهم!
الدعاية... قضية إعلامية دولية
الحياديون.. الممعنون البصيرة ممكن أن يعترفوا مع أنفسهم على الأقل، ان أوان الدعاية الإعلامية الغربية المعادية لكل ما هو غير سائر مع ركب التطلعات العالمية عند الدول الرأسمالية، تُثير لديهم تساؤلاً مشروعاً، ذا مفاد صريح ينص – أين هي عدالة الغرب حتى يمكن الوثوق تماماً بإعلامه.. و يستكمل طرح النقد الموضوعي خطوته بهذا الصدد – إذا ما تمّ التأكيد ان محور الدعاية الغربية، يدور حول الدعوة بشكل إيحائي إلى التحضر على طريقة تقليد الأسلوب الغربي، و الثقافة الغربية، و الفكر البرجوازي الليبرالي الغربي. أي أن المطلوب من المجتمعات غير الغربية، و بالذات منها الواقعة ضمن جدول الاستهداف الغربي كمجتمعاتنا الإسلامية و العربية، أن تفقد هويتها المحلية و تهجر أعرافها و تقاليدها المحلية الأصيلة، المعروفة بإيثار التماسك العائلي و عفاف الأفراد من كلا الجنسين.
الآراء.. المثارة حول مختلف قضايا العصر، توضح إن التغطية الإعلامية لها و لأحداث العالم، تساهم حتماً في تشكيل مستقبل البشرية، لذا فليس من العدل أن تنفرد بها الوكالات الإعلامية الحكومية لوحدها أو الوكالات الإعلامية المستقلة بالاسم، و في صدارتها وكالات الإعلام الغربية و التابعة فقد ثبت و يثبت كل يوم، إن إيداع المعلومات القالبة للحقائق تستهدف التوصيل المحرّف للمعلومات، إذ أصبحت هناك صعوبة فعلية و قائمة لمواجهة السيل الإعلامي المتدفق و الجارف للمصداقية و الحقائق، هذا إن لم يُقال أن هناك صعوبة لمتابعة ومواكبة ذلك، و خصوصاً في البلدان التي تعاني من تسلط حكومات مفروضة عليها فمثلاً حكومة »جنوب أفريقيا« كانت قد شملت استخدام قانون »حالة الطوارئ« لملاحقة و اعتقال و سجن و إهانة و تعذيب الصحفيين، بعد أن توجه ضدهم تهمة جاهزة ربطوها بخرق أولئك الصحفيين للقانون المذكور، لانهم كانوا متواجدين في مناطق الإضرابات بمدينة – بريتوريا في كانون الأول 1990م أثناء قيامهم بواجبهم الصحفي، و هذا ما دعى الجهات الصحفية المحلية بمطالبة الحكومة هناك لتعديل (قانون الصحافة).. كي يستثنى عمل الصحفيين و الإعلاميين، من إجراءات قانون الطوارئ، لكن محاولتهم باءت بالرفض القاطع. فإذا كان التواصل الجيّد يعني ان اهتماماً إعلاميا يستوجب توظيفه، من اجل رُقي حضاري افضل لأي مجتمع، و ما يعني ناسهُ ثقافياً و يعينهم روحياً، فان الدعوة لتلبية حاجات المتلقين للإعلام تبقى مشروطة بموضوعيتها الفعلية.
الدعاية... لسان حال.. ولكن..
الدعاية.. كقضية متفاعلة، فمن أينما تأتي و كيفما تكون، فهي تمثل حالة اقتراب أو ابتعاد من التفكير، على ضوء طبيعتها الإيجابية أو السلبية، و بهذا الصدد يُشير تاريخ الدعاية، أنها بدأت تنشط بطفرات كبيرة تحت ظروف ما سمي ب»تدفق المعلومات الحر« التي أعقبت الحرب الدولية الثانية سنة 1945م.. وحول ذلك لا ينكر المنظّر للدعاية البرجوازية الغربية الأمريكي (هاري لاسويل) انّ هدف مبدأ – تدفق المعلومات الحر – لا يعيقه عائق و لا تقيده ضوابط.. و قد صاغ عبارة بكلمات أدق حين اعترف معرباً بكل صراحة: »إن الدعاية تقتصد النفقات المادية على السيطرة العلمية«.. و كان ذلك بمثابة نذير و إنذار لإفهام و إبلاغ قاطبة المجتمعات، ان عصر التخطيط و محاولة السيطرة الغربية على الإعلام الدولي قد بدأ أول خطواته الحثيثة، فإذا كان تصريح »لاسويل« لا يدع مجالاً للتأويل اللامسؤول، انه يمثل لسان حال النظام الرأسمالي الغربي على أبشع صورة تعميميّة، و بديهي جداً فان الآمال الإعلامية الغربية اللامشروعة تتناسى الواقع الإعلامي المغشوش في معظم البلدان الرأسمالية، فهذه هي الولايات المتحدة الأمريكية إحدى أهم قلاع الغرب، لا يثق اغلب مواطنيها بنزاهة الصحافة فيها، إذ قالت ذلك و على ذمتها صحيفة »كريستين ساينس مونيتر« الأمريكية بحسب استفتاء خاص أجرته في نيسان 1986م.. و الأغرب ما في الأطروحة الإعلامية الأمريكية التي تتقوّل بإطلاق تسمية »الصحافة الحرة« على دورياتها الصحفية، ان هناك من يقطع طريق التفنيد عليها، و يُلاشي تلك التسمية إلى مرتبة الصفر. و بهذا المعنى أكد (مايكل روبنسون) البروفيسور في جامعة جورج واشنطن معقباً بـ»أن العديد من الأمريكيين يعتقدون بأن الصحافة الأمريكية، تخشى من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، و بعض الإدارات المتنفذة الأخرى«.
و هكذا.. يستبان من خلاصات التجربة الإعلامية الدولية المستمرة، منذ اكثر من نصف قرن، ان أي استهدافات غربية أو غير غربية تضاد بنائية و كرامة وحقوق الإنسان، لا يمكن ان يكتب لها الاّ نجاحاً مؤقتاً، فالفطرة على الخير و شكيمة سيكولوجيا المجتمعات، اكبر مما يخطط له المفكرون البرجوازيون الغربيون، من محاولة تسييد صورة إعلامية باهتة للبشرية.. المسبّية في صميم طموحها و معنى وجودها، و تهديد مستقبلها. و ان الدعاية المظللة و انتهاجات تزييف الحقائق هي ألاعيب إعلامية ستبقى مفضوحة.
الدعاية... و المصداقية
معلوم.. أن البحث عن الحقيقة و كشف الخلل، أينما تواجدا فهما من المهام الاعتيادية المرسومة للعمل الإعلامي، الذي يستحق عليها كل تقييم و تقدير، لكن مما يلاحظ ان الصورة الإعلامية لدى غالبية البلدان، ليست على ما يرام، بما فيها البلدان الغربية ذاتها، فالرسالة الإعلامية المسؤولة ملتهمة تماماً، أما الدعاية الإعلامية الرسمية لدى شاكلة تلك البلدان، فتتحدث فقط عن وهم امتلاكها لصحافة حرة، لم يلمس لحريتها المزعومة أي وجود حقيقي.. و لا تتحدث عن وقائع بقية عمل أجهزة إعلامها، و كيف تمارس التضليل و التمويه و الخداع لاستجرار ذوي التفكير الهش، إلى تأييد وإرضاء الحكومات (وكيفما اتفق) وبذا فان هذا الانتقاص الإعلامي الملحوظ، يظهر الدعاية و كأنها مصيدة للعقول و الضمائر.
إن.. إثبات المصداقية الإعلامية ستبقى مسألة يتطلع إليها الجمهور المتلقي للإعلام، و هو يعلم جيداً بماهيّة الإعلام و كيف ينبغي ان يكون، إذ يتداول أناسه الكلام و بكثير من حسن النية إن الخيرات العامرة في البلدان النامية (الإسلامية و العربية) على وجه التشخيص، ما يزال يقابلها تخلف ثقافي و لابد من كشفه و تحديه و إزالة أسبابه و مسبباته، ووقف الدعاية الإعلامية المستحسنة له ضمناً.