د. فيصل عباس
1- الحرية السلبية:
تقوم الحرية السلبية على التحرر من القيود والسلطات الخارجية (كالكنسية، أو الدولة)، وتقف عند هذا الحد مكتفية بما أحرزته من انتضارات ضد الأشكال التقليدية للسلطة. لكن التحرر من السلطات الخارجية وحده لا يكفي، لا بد أن يتحرر الإنسان من داخله، من قوى السلطات المجهولة.
إن الحرية السلبية قد تصبح حرية مزيفة لأن الإنسان يعتقد أنه صاحب القرار، في حين أنه يفكر ويشعر ويقرر وفق ما هو سائد، وفق ما يريده المجتمع.
فمشكلة الحرية هنا هي مشكلة الحصول على المزيد من الحرية، إنها تجعل "التحرر من" هدفا في ذاته، فهي تحرر الإنسان من كل الروابط والقيود التي تحد من حريته واستقلاله، لكنها في الجانب الآخر تجرده من كافة الروابط التي من شأنها أن تمنحه الأمان والانتماء، لذلك فإن الحرية السلبية غالبا ما ترتبط بالعزلة والوحدة والقلق.
والإنسان لا يستطيع أن يتحمل عبء الحرية فيحاول أن يهرب منها، لكن الإنسان يهرب من الحرية السلبية إلى الخضوع للآخرين أو العبادة الصنمية للأشياء. بعبارة أخرى إن الإنسان يهرب من حريته السلبية ليتحول من الوجود الإنساني إلى وجود الأشياء، من ثم فإن الإنسان الذي يهرب من الحرية والقلق إنما يغترب عن ذاته.
2- الحرية الإيجابية:
تقوم الحرية الإيجابية على التحرر الكامل، أي تحرر الإنسان من السلطات الخارجية والباطنية معا، فهي لا تعني بـ "كم" الحرية التي أحرزها الإنسان بقدر ما تعني كيف استطاع الإنسان أن يحقق ذاته وأن يكون نفسه. من هنا فإن الحرية الإيجابية هي الحرية الحقيقية لأنها تقترن بخلق الذات الأصيلة وبالقدرة على الارتباط التلقائي- أي أن يتحد الإنسان مع العالم والآخرين، دون أن يفقد استقلاله أو يضحي بذاته.
يتبين لنا أن الحرية السلبية قد ساعدت الفرد على أن يتحرر من قيوده الخارجية فقط، لكنها عجزت عن أن تحرره من داخله. ومن ثم فقد ارتبطت تلك الحرية بالعزلة والوحدة، وبعجز الإنسان عن خلق نوع جديد من الارتباط الذي يصله بالعالم الخارجي دون أن يفقد ذاته، والحرية على هذا النحو تصبح شيئا مرعبا، شيئا يهرب منه الإنسان. والإنسان الحديث كي يهرب من الحرية انساق إلى قيد جديد: لقد تحول إلى مجرد آلة في أيدي القوى المهيمنة خارج ذاته، لقد حاول أن يجد الأمان ولكن عن طريق التخلص من حريته، لقد حاول أن يتحد مرة أخرى بالعالم وبالآخرين ولكن عن طريق الخضوع وفقدان النفس، لذلك فقد أفضت الحرية الجديدة التي أوجدتها الرأسمالية إلى نقيضها، لقد تحولت إلى العبودية، باختصار لم تساعد الحرية الجديدة الإنسان الحديث على أن يكون ذاته، بل أدت إلى الاغتراب عن ذاته.
هذه هي الحرية السلبية، وهي تمثل مرحلة انتقال إلى الحرية الإيجابية التي يستطيع فيها الإنسان أن يحقق ارتباطه الأصيل بالعالم وبالآخرين دون أن يفقد ذاته أو يستأصل فرديته.
وإذا لم تقدم الظروف المناسبة (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) لتحقيق الفردية بالمعنى الإنساني فإن الهوة بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية تزداد، وتصبح الحرية شيئا لا يطاق. "إنها حينئذ تصبح متماثلة مع الشك، مع نوع من الحياة ينقصها المعنى والاتجاه".
والنتيجة التي ترتبت على ذلك هي أن الإنسان لا يستطيع أن يتحمل عبء الحرية السلبية التي تجعله وحيدا ومعزولا، من ثم فإنه يهرب من حريته، ويضحي باستقلال ذاته الفردية، وينتهي به الأمر إلى اغترابه عن ذاته والتضحية بهذه الذات على مذبح العبادة الصنمية.