سعد محمد رحيم
العولمة في المعنى المعجمي هو أن يتخذ شيئا ما بعدا عالميا , إلى هنا يبدو الأمر بريئا وشرعيا,غير أننا عندما نذهب إلى معناها الإصطلاحي المتعارف عليه في حقول السياسة والأقتصاد والثقافة والإعلام فإن هذه البراءة ستتلاشى, وستكشف تلك الشرعية عن زيفها , ولا سيما إذا أخضعناها للمعايير الإنسانية والأخلاقية العامة ولكن هل تستطيع عملية الإخضاع هذه المجردة إيقاف زحف العولمة وتأثيراتها الواسعة ؟ الجواب هو بالتأكيد لا ... ذلك لأن العولمة تتحول اليوم إلى قوة شبحية هائلة تسيرها مصالح واستراتيجيات وأطماع ..
وتشتغل على الأصعدة كافة .. فهي تسعى إلى تغيير صورة العالم والإطاحة بتوازناتها القديمة , والتأثير في دقائق حياة الأفراد والمجتمعات , ولذلك فإن لها آلياتها العاملة في حقول الإقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام ... فالعالم مع العولمة يتحول في علاقاته وأشكال مؤسساته وأنساق مفاهيمه , وأنظمة قيمه واتجاهات السلوك في مجتمعاته , وهويات هذه المجتمعات,وكذلك في إهتمامات البشر وأذواقهم وحسهم الجمالي,وثقافتهم وأخلاقهم , وفي كل هذا تلجأ العولمة من خلال إستثمار التطورات الحاصلة في مجال الإتصالات وتقنيات المعلوماتية والإعلام إلى تهيئة الأرضية النفسية والثقافية في المجتمعات الآخرى , ولا سيما في العالم الثالث , لقبول طروحاتها والأنجذاب إلى النموذج الحياتي الذي يترغب في تعميمه , ولذلك فإن الخطوة الأولى في التصدي لهذا الطوفان العارم هو أن نفهم ما هية هذه العولمة واستراتيجيتها وأهدافها والمؤسسات والحكومات التي تروجج لها , وكيف تعمل ؟ وماذا تريد على وجه الدقة ؟ وإذ ذاك علينا أن نطرح السؤال الضروري والخطير : ما العمل ؟ وفي أثناء الأجابة علينا أن نقتنع في البدء أن هذه العولمة ليست قدرا نهائيا على العالم الإستسلام له , فهي ظاهرة تاريخية شاذة , كما الإستعمار وإن كانت تمتلك وسائل وأساليب وآليات أكثر حذاقة وخطورة وفاعلية , وعلينا ثانيا أن نفهم أن هذه العولمة لا تنطوي على حلول سحرية لمشاكل العالم المتخلف والنامي , ولن تقودنا إلى الفردوس المفقود على الأرض , كما تدعي .وعلينا ثالثا أن نؤمن بأن الإنسانية في جانبها الخير تحوي من الممكنات ما تجعلها , إذا ما توفرت لها الإرادة والتصميم وشروط الفعل , أن تواجه هذا المقترح الإمبريالي /الرأسمالي المرعب , وتوقفه عند حده .
وإذا كانت العولمة من خلال الشركات عابرات القارات , والمؤسسات والمنظمات المالية والتجارية الكبرى التي تسيطر عليها امريكا بخاصة قد عولمت أسواق كثيرة انفتحت أمام منتجاتها ورساميلها فإن العوملة في الجانب الآخر تروم غزو العقول وتفتيت الثقافات وإشاعة النمط الحضاري الغربي / الأمريكي , ليسهل عليها , من ثم إحكام سيطرتها على العالم بأسره , وفي هذا فهي تعمل على عولمة الإعلام في خدمة العولمة ظاهرة وأيديولوجيا .
فالعولمة هي أيديولوجيا الرأسمالسة في ذروة إحتكار السلطة والثروة ... هي التصور الشمولي لتلك الفئة من البشر التي تركز عناصر القوة كلها بيدها , لتجعل من العالم رقعة شطرنج هائلة من خلال محاولة تدجين الإرادات تحت سيطرة الرأسمالية .
إن مأزق الثقافة المعاصرة يكمن – وهو مأزق ومفارقة في آن معا - في أن تدفق المعلومات الحالي والتوسع في مجال المعلوماتية , وتطور صناعة الصور لم يؤد إلا إلى خلق إنسان مدمج في دائرة تأثير الإعلام العولمي , فقد نجح هذا الإعلام في نبذ أبعاد كلمات كثيرة من قاموس المجتمعات الغربية , ومنها الثورة , الصراع الطبقي , التمرد , حق تقرير المصير , التحرير ...إلخ – ملقيا على هذه الكلمات ظلا مريبا وجد إنعاكسه كذلك عند كثير من المجتمعات والحركات السياسية في العالم الثالث , وهذا الإعلام يشيع كلمات بعينها لتحل محل كلمات أخرى , وهذه العملية تصيب الإنسانية بالتشويش والأرتباك , فعلى سبيل المثال باتت كلمة إرهاب تتداول عبر وسائل الإعلام بديلا عن كلمة المقاومة والنضال من أجل التحرر , وصار الإعلام الغربي يطرح الكلمات هذه بصورة ملتبسة بحيث يكون معها اختطاف عصابة لشخص مقابل فدية مالية مثلا , مساوية لحالة طفل فلسطيني بقذف المحتلين الصهاينة بالحجارة , والغريب أن هذا الأمر بات ينطلي على كثيرين , وحتى في العالم الثالث , فنراهم يحاولون خلق ذرائع شتى ليبعدوا عن انفسهم وصمة الإرهاب ... فالصناعة الإعلامية العولمية جعلت تغير من أنساق الأفكار والقناعات والآراء بوسائلها وطرائقها البراقة الحاذقة .
وإذا كان بالإمكان المراوغة في صياغة الجمل عند التعبير عن حدث أو فكرة والسكوت عن تفاصيل وجوانب وأشياء , فإنه في حالة الصورة أيضا يمكن المراوغة , ولابما بشكل أكبر فاختيار صور بعينها وإخفاء أخرى وتحديد زاوية الرؤية عند تقديمها سيؤثر على وجهة نظر المتلقي .
ناهيك عن ان الصور قد لا تعكس حالات العالم الداخلي / الباطني و وما تعتمل فيها من أفكار وهواجس ومشاعر , وتكون بحاجة إلى معونة الكلمات ... هنا تغدو الكلمات في خدمة الصور المختارة , وليس العكس كما كان يجري سابقا في مجال الإعلام .
وتهيئ ثقافة العولمة – إن جاز أن نطلق عليها إصطلاح ثقافة – مستلزمات وشروط الهروب من الواقع , أو التعامي عنه .
إن كل شئ في عصر العولمة يتحول إلى لعبة وإثارة , بما في ذلك صور المآسي والكوارث .
إن القفزة الحاصلة في الفلك الإعلامي بنتيجة ثورة الإتصالات والمعلوماتية باتت تسرع من إيقاع الحياة , فالتحولات الهائلة والمفاجئة في ما حول الإنسان جعلته يعاني من صعوبة التكيف , والملائمة مع ما يجري وإستيعابه , ولم يعد هناك وقت كاف للتامل والتمحيص عند إتخاذ القرارات .
ويقينا لن يكون الحل في صب اللعنات على هذه الثورة المعلوماتية , أو بالإنكفاء على الذات , وبناء السدود من حولها لدرئ مخاطر تلك الثورة , وإنما في إيجاد المؤسسات الكفوءة ووضع الإستراتيجيات الناجعة لإستثمار ممكناتها خارج ما ترتئيه إستراتيجيات العولمة ..
وإذا كانت العولمة تسعى إلى فرض النمط الحضاري الواحد فعلينا أن ندرك بإن تحقيق الذات وتأكيد الشخصية الحضارية لا يتأتى إلا من خلال الفعل الإبداعي الذي يجعل لنا مساهمة فعالة في صيرورة العالم المعاصر وتحولاته , وبهذا سنفرض منطق التنوع الثقافي والذي هو منطق أكثر فعالية وخصوبة وفائدة لمستقبل البشرية من المنطق العقيم للعولمة..