كل حديث عن النظام الإعلامي الجديد من الداخل , أي من حيث آليات إشتغاله وأسباب ممارسته تأثير السحر على المتلقي, يفترض الحديث عن الصورة , وما تحوزه من إمكانيات تقنية , لكن تحليل فعالية هذا النظام يحتاج أيضا إلى مقاربته من الخارج , أي من حيث قدرته على توصيل خطابه إلى المتلقي .
يتجلى هذا النظام الإعلامي – ماديا - في عشرات الأمبراطوريات السمعية – البصرية الضاربة, ممثلة في شبكة من القنوات التلفزية موصولة بالأقمار الصناعية و مبثوثة من مركز بعيد يمتد إشعاع إنتشاره وتأثيره والتقاطه إلى اطراف نائية وهو نظام بات قادرا على الوصول بيسر إلى مجتمعات شديدة الاختلاف في نسق قيمها عن النسق الإجتماعي - الثقافي الذي تحمله المادة البصرية المبثوثة عبر ذلك النظام و إذ لا يتعلق في خطورة هذه الشبكات الهائلة من القنوات الفضائية – فيما يخصنا نحن في الوطن العربي على الأقل بدورها السياسي, بل في خطورة دورها على الصعيدين الإجتماعي والثقافي : إذ صار في وسع هذه الإمبراطوريات الإعلامية تحقيق النجاح في التدمير الحاسم لآخر جبهات المقاومة لدى مجتمعاتنا : الجبهة الثقافية – الإجتماعية , وهو هدف بات ممكنا لسببين رئيسيين : ليسر تحطيم ذلك الامن الثقافي بواسطة إستغلال التقانة , ثم لعجز النظام الأجتماعي – الثقافي العربي التقليدي عن إعادة إنتاج سيولة القيم الضرورية لحماية النسيج الوطني للمجتمعات العربية من الأستباحة والتمزيق :
1- إن ربط الشبكة الإعلامية بنظم الإتصال الفضائي , وهو أبرز اقتران معاصر بين الثقافة والتقانة , رفع من قدرة الصنعة الإعلامية الغربية الجديدة على التوسع والإنتشار خارج الحدود , ومكن فئات واسعة من الناس , في المجتمع العربي (وفي سواه) , من التقاط برامجها بالهوائيات العادية (في حالة القرب الجغرافي كما هو الأمر في المغرب العربي مع القنوات الفرنسية , والأسبانية , والأيطالية , والبرتغالية) , أو باستعمال الصحون اللاقطة لكنه في النتيجة حد من قدرة الدولة ونظام الرقابة الإعلامي , على منع ذلك الإختراق أو التشويش عليه , وكان ذلك تعبيرا عن اختلال حاد في التوازن بين التقانة هنا – وهي في حكم المنعدمة أو المتخلفة - والتقانة هناك : حيث لا شئ صار يملك أن يقف في وجه تعميم القيم التي يريد تعميمها مديرو ومهندسوا النظام الثقافي – الإعلام في الغرب , بعد أن نجحوا في أن يركبوا صناعتهم الإعلامية على أحدث نظم الأتصال الناهضة على قوام تقاني عالي الكفاءة .
نجحت الأقمار الصناعية في أن تضع تفاصيل العالم تحت المراقبة الدقيقة , ونجح النظام الإعلامي الجديد في أن ينقل عبرها القيم والرموز والصور التي شاء إلى كل النسيج الإجتماعي الداخلي للعالم , وفي الحالتين , كان ثمن ذلك هو إنهيار الأمن الثقافي لدى المجتمعات - نحن منها- لم يعد لها ما تقاوم به , بعد الغزو العسكري والأقتصادي وبعد الهيمنة السياسية , سوى الثقافة والرموز هذه التي تتعرض قدرتها الأستراتيجية اليوم للتآكل .
2- قبل عقدين , أو يزيد على ذلك بقليل , كان سائغا لدى الجميع أن يجري الحديث عن الأمن الثقافي والأجتماعي , وعن الثقافة القومية والوطنية , وعن نسق القيم الذاتي المستقل والمتميز , وعن كل ما له علاقة – في ميدان الثقافة والإجتماع – بالأنا القومية وبالهوية التاريخية والحضارية للأمة العربية و كان يمكن لهذه الأمة أن تخسر حروبا وتنهزم عسكريا دون أن تستسلم وكان يمكنها أن ترزأ في مشروع تنموي – انعقدت عليه آمال ابنائها – من دون أن تنهار , وكان يمكنها أن تشاهد دولتها تخر تحت أقدام الجنرالات أو خبراء المؤسسات المالية العالمية من دون أن تصاب بالإحباط , وكان (يمكنها أن تعاين وقائع غرائز القهر والعدوان لدى حكامها من دون أن ترفع الراية البيضاء ...إلخ , كانت تستطيع أن تمتص كل تلك الصدمات والفجائع – في ما مضى – من دون أن تدفع ثمن ذلك من توازنها الذاتي ولم يكن مربط فرسها في كل ذلك سوى رصيدها التاريخي - الحضاري , ولا شعورها الرمزي , المعبرين عن نفسهما في ميدان الأجتماع والثقافة في شكل بدا فيه الإستمرار والتواصل قانونا أرجح – في رسم المستقبل – من قانون الإنقطاع وفي شكل عوضت فيه الممانعة الثقافية – بل المكابرة القومية – عن النكسات المادية ! .
وليس من شك في أن من بين اهم مؤسسات الإجتماع والثقافة التي نهضت بدور إنتاج فعالية الممانعة على مدى تاريخ طريل مؤسستا الأسرة والمدرسة : لقد كان لهما أن يغذيا المجتمع – على الدوام – بحاجاته من القيم , والرموز والمعايير و بقوة فعل التربية و التلقين , وأن يحصنا ناشئته في جميع الفترات من مخاطر عنف التكييف الخارجي , ويزودها بنظام المناعة الثقافي الذي يحميها من الأستتباع أو من الأنسياق وراء نظم ومرجعيات أخرى تقع خارج الجغرافيا الثقافية والأجتماعية للكيان الوطني وبإختصار , كانت هاتان المؤسستان المعمل الطبيعي لإنتاج وصناعة السلوك والذوق والإختيار لدى المواطن العربي , و(الثكنة المدنية) لحماية الأمن الثقافي للمجتممع , غير أن هذه المؤسسات لم تعد – اليوم- قادرة على الإستمرار في أداء هذه الوظائف على نحو ما كانت تستطيعه في الماضي .
ربما كان ذلك لقصور في الخهاز الذاتي لهذه المؤسسات التربوية وخاصة المؤسسة التعليمية - التي لم تعرف ثورة من الداخل على العتيقة للتلقين , وربما كان ذلك بسبب كثافة الهجوم الثقافي الذي يتعرض له المجتمع – ونسق القيم فيه – من خلال الثورة الإعلامية إياها , ولكن ليس من شك في الحالين , أن مؤسسات النظام الثقافي والإجتماعي الطبيعية للمجتمع العربي الراهن لم تعد تملك أن تواجه هذا التحدي المصيري بانتظام عملها على نفس القواعد القديمة, وعلى النحو نفسه , لن يكون في وسع النظام الإعلامي العربي الراهن أن يقوم مقامها في أداء هذا الدور لتخلفه وتفاهته.