من كتاب "الإعلام فوق رمال متحركة"
تستطيع الصحيفة أن تقوم بأدوار حضارية؛ فيما لو اقتنع القائمون على الصحف العربية بجدوى استقطاب الرموز الثقافية، والكفاءات العلمية في ميادين المعرفة المختلفة.
منطق الربح المادي قد يحُول دون تنفيذ هذه الفكرة الحضارية، بناء على ذات الفلسفة القديمة التي تستنسخ نفسها، والتي حددت أبوابها بصفحات الأخبار المحلية والخارجية، والتحليلات الإخبارية والسياسية إلى جانب الصفحات الاقتصادية وصفحات الفن و الرياضة و التسلية، وما تمخض عن هذه الأبواب الثابتة من ملاحق عززت من أداء الأبواب المذكورة.
ظن أهل الإعلام المكتوب أن استمرار الصحيفة مرهون بالحفاظ على هذا الشكل التقليدي؛ الذي حدد نوعية المواد التي تشتمل عليها الصحيفة دون زيادة أو نقصان مما ساعد على تقلص المخرجات الناتجة عن هذا التوجه.
ولو تمهل القائمون على هذا الصروح المعنية بالترويج للكلمة أثناء قراءتهم للواقع الذي يشكل صدى مساهماتهم المكثفة؛ لرأوا أن ثمة فجوات فكرية ناقصة يمكن أن تفتح أبوابا من النجاح المزدوج الذي يتمتع به القارئ ومالك الصحيفة على حد سواء.
لو فعل ملاك الصحف وأجهزتهم الإدارية ذلك؛ لفتحوا الأبواب أما الباحثين الجادين في قضايا المعرفة المختلفة، ولذابت صخور الجليد التي تفصل ما بين التنوع الثقافي وبين العمل الإعلامي المكتوب.
إن ترشيح الصحف العربية اليوم للقيام بدور ريادي في صناعة القارئ النهم لمختلف أنواع المعرفة المتمرس في انتقاء ما يضيف لرصيده المعرفي، هو ترشيح تدعمه الأدلة المتنامية، والقائلة بأن الصحف وحدها ما زالت تقاوم وبشراسة تيار الدمج غير الأخلاقي مع المنظومة الفكرية المتهالكة التي تروج لها العولمة بتجلياتها الاقتصادية والفكرية والثقافية.
ترشيح الصحافة المكتوبة هو خيار أنتجه الواقع السلبي للإعلام المرئي الذي يثبت يوما بعد يوم أنه خارج أي مشروع نهضوي مؤسس على تربية معرفية بماهية التغيير لأسباب منها:
انتشار التسطيح، وغياب الوعي بالأدوار المنوطة بتلك الأجهزة؛ مما أوقع القائمين عليها في تجاوزات يعرفها الجميع.
بالعودة إلى صلب الموضوع المثار وهو استقطاب العقول المعنية بقراءة النسيج الاجتماعي من زاوية التأثيرات النفسية والسلوكية للتطورات التي تشهدها المنطقة؛ أرى أن درجة الجاهزية والاستعداد من قبل الباحثين والأساتذة الجامعيين للمساهمة بجهودهم في ترشيد العقل المسلم، وإخراجه من حصار التيه المضروب على فكره مرتفعة، كما أراهن على أن هذا الاستقطاب هو استثمار مزدوج المنفعة.
أما سبب دعوى تأكيد ربحية الأجهزة الإعلامية الراغبة في استقطاب هؤلاء المثقفين؛ فيعود لحزمة متكاملة من المبررات العضوية التي تضع نتاج عقول فئة الباحثين الاجتماعيين والنفسيين تحت تصرف الصحيفة والقراء معا، ومنها القيمة الفعلية لنتاج هذه الشريحة المثقفة.
يكشف هذه القيمة حيازة القارئ على سلة متكاملة من المعارف التي بإمكانها أن تحقق له نموا معرفيا بمجتمعه أفضل من السابق.
كما أن تلبية الصحيفة لاحتياجات القارئ من الوعي بذاته ومهنته، وبأدواره المتنوعة؛ سيكسر الروتين الحالي لبعض الأبواب التي لم يعد لها بريقها السابق حيث فقدته من كثرة تشابه نمط المعالجة، وطريقة العرض مما يمهد لبناء علاقة وطيدة بين الصحافة التي أضيفت لها أبواب غير تقليدية، وبين القارئ الذي سيعيد النظر إزاء دور الصحيفة في حياته.
إن الحديث في تجليات المشهد الثقافي المنوع الذي ندعو للصحافة المكتوبة للاهتمام به، وتقليبه على الوجوه، يطول ويستدعي مزيدا من الحوارات العالية السقف، ولنا أمل كبير في أن يؤمن من بيدهم سلطة القرار الإعلامي بمدى المصلحة المشتركة؛ التي مكن جنبها من الاستجابة لهذا المطلب الحضاري الوجيه.