الحقيقة أن إعلام الطفل في الغرب نشأ في إطار سياسات حضارية عاملة لدى النخبة وصانعي القرار من أجل التحكم في ميول الطفل وغرائزه وتلقينه أخلاقيات المجتمع الغربي، وتدريبه على ما ينبغي أن يتحلى به من أخلاق وخصال فردية واجتماعية، في سياق إعادة بناء الفرد والمجتمع . ففي المجتمعات الغربية الرأسمالية نشأت ثقافة الطفل في التلفزيون لتكون في خدمة الثقافة الرأسمالية وتطلعاتها وأهدافها المتوخاة، ولتكسب الطفل الغربي نزعة الكسب والقوة والجشع والاستهلاك وحب الذات والإيمان بالفردية، وحذت المجتمعات الشيوعية في الستينات والسبعينات حذو المجتمعات الرأسمالية في إنتاج ثقافة خاصة بالطفل تحاول زرع الإيديولوجية الشيوعية في نفسيته وعقله ووجدانه، وتربيته على أخلاقيات المجتمع الاشتراكي بكل الأفكار ذات الجذور الشيوعية ، مثل فكرة نفي الألوهية وأصل الحياة والصراعات الطبقية وغير ذلك. ورغم ما يظهر من وجود تباينات بين هذين التوجهين المتقابلين، فإن الفلسفة ظلت واحدة، وهي بالعنف والصراع والبعد المادي في الحياة.
فإذا أخذنا كمثال نموذج "والت ديزني" الأمريكية الشهيرة، فإننا سنكتشف وراء هذه ! الإمبراطورية الأمريكية الخاصة التي تعمل في تجارة التسلية الموجهة للأطفال على وجه الخصوص، شبكة من المصالح والأهداف التي تنحو إلى تنميط وعي الطفل وتعليبه في نمط ثقافي وحضاري معين، يعكس أخلاق الليبرالية والرأسمالية المتوحشة، كالصراع والربح والاقتناء والقوة وعدم وجود قوة فوق الإنسان وسيادة الفرد ورغباته ونزواته ، كمعيار وحيد يحدد سلوكاته في الحياة ومعاملاته مع الآخرين.
وقد توصل باحثان أمريكيان ـ قاما بدراسة لكتب ديزني الهزلية التي لقيت رواجاً على نطاق واسع عبر العالم ـ إلى أن هذه الكتب تتضمن العنصرية والإمبريالية والجشع والعجرفة، بشكل مستقل عن القيمة، وفي النهاية فإن هذا العالم الخيالي الموجه للأطفال يغطي نسيجا متشابكا من المصالح ويخدم إمبريالية أمريكا الشمالية.
وقد ظهر عام 1999 أن توجهات هذه الشركة ليست محايدة كما كان يعتقد الكثيرون، عندما اعتزمت إقامة جناح خاص بالقدس الشريف يعرضها كعاصمة للكيان الصهيوني بمناسبة معرض الألفية الثالثة.
فالشركات تعمل على أساس أن الطفل عالم قابل للتشكيل بحسب الرغبات والأهداف المقصودة، وأنه رهان كبير على المستقبل والحاضر، إذ بامتلاكه والسيطرة على وعيه والتحكم في ميولاته يمكن امتلاك المستقبل والسيطرة عليه، فالطفل هو الغد القادم، وما يرسم هذا الغد هو نوعية التربية والتلقين التي نقدمها لهذا الطفل في الحاضر.
الأعمدة الثلاثة:
يتشكل إعلام الطفل بوجه عام من الرسوم المتحركة وأفلام الكرتون والعرائس والأشكال الفنية الأخرى ذات المضامين والمحتويات التي يقصد بها الأطفال وفئات الشباب.
وتعتبر هذه الفنون رافدًا أساسيّا من روافد تربية الطفل وتنشئته اجتماعيا ونفسيا وعقليا، وتطوير ملكاته وتهذيبها، وغرس القيم المستهدفة من وراء عملية التنشئة، وتنمية مهاراته الذهنية، كما أنها تعطي للطفل فرصة الاستمتاع بطفولته وتفتح مواهبه ونسج علاقاته بالعالم من حوله. وتؤثر مسلسلات وأفلام الكرتون والرسوم المتحركة وغيرها تأثيرًا بالغاً في وجدان الطفل ، إلى الحد الذي يحقق معها حالة تماثل قصوى، لأن الصورة المتحركة المصحوبة بالصوت في المراحل المبكرة للطفل تتجاوب مع الوعي الحسي والحركي لديه، وتحدث استجابات معينة في إدراكه، تساهم فيما بعد في تشكيل وعيه وتصوره للأشياء من حوله، لأنه يختزنها وتصبح رصيده الثقافي والوجداني والشعوري. لكن الصورة والرسوم ليست مستقلة عن الأبعاد الثقافية وعن الهوية الحضارية، فالصورة في نهاية الأم! ر وسيلة تبليغ وأداة تواصل وجسر بين الطفل والرسالة المحمولة إليه، وكل رسالة ثقافية تفترض وجود ثلاثة عناصر تدخل في تركيبها، بدونها تخرج عن كونها رسالة، وهذه الأعمدة أو العناصر الثلاثة هي : المرسِل، والمرسَل إليه، والرسالة، وفي حالة إعلام الطفل فإن المرسل يكون هو المنتِج أو الكاتب صاحب الرسالة، والمرسَل إليه هو الطفل، والرسالة هي الموضوع أو المحتوى . وتؤثر هوية المرسل في طبيعة الرسالة، فتأتي هذه الأخيرة انعكاسا طبيعيّا لثقافته ووعيه وهويته الحضارية والدينية، وهذا التداخل بين المرسِل والرسالة يكون له تأثير قوي على الطفل أي المرسَل إليه. ومن هذا المنطلق، فإن أي منتج ثقافي، مهما تنوع مرسلوه أو المرسل إليهم، هو رسالة حضارية وثقافية تحمل مضمونا معينا يراد تبليغه، وتظهر فيه البصمات الحضارية الخاصة.