بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا: "ان السياسة لا تتفق مع الاخلاق في شيء. والحاكم المفيد بالاخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ على عرشه" وقالوا ايضا: " لابد لطالب الحكم من الالتجاء إلى المكر والرياء، فإن الشمائل الانسانية العظيمة من الاخلاص، والأمانة تصير رذائل في السياسة، وأنها تبلغ في زعزعة العرش أعظم مما يبلغه ألد الخصوم".
الكثير من الذين يعملون في حقل السياسة، وممن لا يتحلون بأخلاقيات لا اله الا الله، يعتقدون ان الاخلاق تقف حاجزا امام تحقيق مآربهم، وعندما يثبت ان احد الساسة اقترف عملا غير اخلاقيا؛ مثل الكذب، والرشوة والسرقة، والابتزاز، والعمل من اجل تحقيق المصلحة الشخصية او الحزبية بدلا من المصلحة العامة التي من اجلها هو موجود في موقعه، تكون الاجابة؛ منه او من مؤيديه، عند توجيه الانتقاد اليه : "يا اخي هاي السياسة" او في لغة قاسية في بعض الاحيان "شو بفهمك بالسياسة". هل تحولت السياسة الى اله ورب يعبد من دون الله او مع الله؟؟؟، هل السياسة اصبحت تشرع للساسة ان يتخطوا الاخلاقيات البسيطة وتفرض على المجتمع ان يتقبل هذه التخطيات بكونه يجهل في السياسة فلا بد له اذن ان يصمت؟؟؟.
ان السياسة والكثير من الساسة في القرن العشرين، وفي كل مكان وزمان تنحصر فيه علاقة البشرية بخلاقها فقط في كونها تعترف بوجوده وتتنكر لمنهجه ولا تؤمن باليوم الاخر، قد وصلت الى الدرك الاسفل من الانحطاط الاخلاقي، حتى ان البعض ادعى بصراحة واضحة انه لا يمكن التوفيق بين الدين والسياسة وذلك لان الدين يلزم التقيد باخلاقيات كثيرة والتي تجعل السياسي غير مرن وتصعب عليه الحركة وربما تؤدي به الى ان يخسر مكانته. وقد اتحفنا ميكافيلي في كتابه "الامير" بكثير من الاساليب والطرق التي تجعل من الاخلاق عائقا لطالب الحكم من ان يصل الى الحكم والى ان يثبت حكمه، وقد توصل الى نتيجة خاطئة هي ان "الغاية تبرر الوسيلة"، وعلينا ـ ونحن نضع خططنا ـ ألا نلتفت إلى ما هو خير واخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد.
ولكن سير الحكام الافاضل مثل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في التاريخ تهدم هذا الرأي من أساسه. ولا دليل حق على أن الشعوب في عهد الحكام الاشرار كانت أحسن حالاً منها في عهد الحكام ساستها الأشرار الاخيار. بل ان التاريخ يثبت على الدوام ان الشعوب في عهد الساسة الاخيار كانت اسعد حالاً منها في عهد الحكام الاشرار. والمغالطة ناشئة من ان بعض الحكام غير الناضجين في السياسة يكونون ذوي نيات خيرة، ولكن ليست لهم المقدرة السياسية على تنفيذها، فيتعثرون ويعثرون شعوبهم معهم. غير ان السبب هو النقص في مقدرتهم السياسية لا في تمسكهم بالاخلاق الفاضلة.
ما هي السياسة؟!! لهذا السؤال العديد من الاجابات، فالبعض يدعي انها فن الممكن، والاخر يدعي بانها القدرة على التدبير من اجل الحصول والوصول الى الغاية، ولكن السياسة من وجهة نظر اسلامية هي : استعمال العقل والمنطق والتجربة والخبرة من اجل تحسين وتدبير شؤون الخلق وذلك في اقل تكلفة ممكنة وبطريقة اكثر فعالية، ومراعاة الواقع والامكانات المادية دون الخروج على حدود الاخلاق والمحرمات والتنازل عن الكرامة والمبادئ والعقيدة التي هي الاساس ومن اجلها نعيش. ومن ثم اجادة تصنيف الاهداف والغايات حسب سلم اولويات، حيث يكون سلم الاولويات مقيدا بتحقيق المصلحة العامة على المصلحة الحزبية والشخصية، ومن ثم اجادة وضع استراتيجيات لتحديد ملامح المراحل المختلفة لتحقيق الهدف ومن ثم في كل مرحلة اجادة تحديد التكتيك المناسب لاجتياز هذه المرحلة. كل ذلك دون تخطي الاخلاق والمحرمات ودون تخطي العقيدة او التنازل عنها تحت قهر الامر الواقع.
وباختصار شديد السياسة هي "تدبير شؤون الخلق من اجل تحسين اوضاعهم"، ولكن ما يحدث في ايامنا حيث لم يعد هنالك اثر لليوم الاخر ويوم الحساب في تصرفات واهداف وسلوكيات وتطلعات الناس، واصبحت المعادلة الوحيدة التي تتحكم في الناس هي: المصلحة تتحكم في الجميع وتححد لهم اهدافهم وكل واحد يسعى الى تحقيق مصلحته ان كان فردا او اسرة او مدينة او مجتمع. وفي خضم ذلك يتم تحقيق المصلحة عند قصيرى النظر في الاستفادة من الامكانات في مجال المدى القصير، بينما يتم عند الاشخاص الاكثر تعقلا في تفضيل المصلحة على المدى البعيد من طريق التنازل عن استهلاك بعض الامكانات في المدى القصير ومن ثم استمثارها لتوسيع دائرة الامكانات في المدى البعيد. وفي خضم هذه المعادلة حيث يفترض ان اللهاث المتواصل من اجل تحقيق المصلحة الشخصية سيوصلنا الى تحقيق المصلحة العامة وهذا ما اشار اليه ادم سميث في كتابه "غنى الشعوب" حيث وضع مبدأ "اليد الخفية" ومعناه انني اعمل الى تحقيق مصلحتي الشخصية دون الالتفات الى المصلحة العامة وبذلك احقق المصلحة العامة دون ان اشعر بذلك.
ربما يكون هذا المبدأ في اقصى صحته يمثل نصف الحقيقة ، حيث نرى في تصرفات الساسة ما يشير الى ان الساسة في حين يتنازلون عن الاخلاق في محاولة منهم لتحقيق الخير للجميع ما الذي سيمنعهم حينئذ بان يسعوا الى تحقيق المصلحة الشخصية، ان عملية التنازل عن الاخلاق هي تزيين العمل من قبل الشيطان }وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام : 43]{ وفي عملية التنازل عن الاخلاق من اجل تحقيق الخير العام تكون بمثابة الخدعة الشيطانية التي قطعت الخيط الذي يوصل حبات العقد مع بعضها البعض وبعد ذلك يجب علينا ان لا نتوقع ونرجو من الساسة الذين التزموا بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة ليكونوا اهلا لتحقيق الخير العام، لانهم بعد ان انقطع الخيط ، هم بمثابة الريشة في مهب الريح او احجارا على طاولة الشطرنج لا تحركهم الا اهوائهم ومطماعهم في اشباع غرائزهم وخاصة غريزة حب الظهور والبروز، ويحركهم في بعض الاحيان اعدائهم اللدودين من الخارج كما يحدث مع الحكام العرب.
ان الشخص الذي يفتقد الى العقيدة ولا يؤمن بها ولا يؤدي فرائضها وواجباتها باخلاص دون رياء لا يستحق ان يكون في موقع القيادة ولا ان يلعب في ملعب السياسة، وذلك لانه لا يؤمن بيوم الحساب، وان اعترف به لا يقيم له وزنا في نفسه حيث لا يشعر برقابة الله عليه في تصرفاته ونواياه، ومن ثم ينحصر مدى غاياته الى تحقيق مصالحه في حدود الحياة الدنيا، دون انتظار لكي يفوز بما وعده الله به من فوز عظيم في حال انه التزم بمنهجه وتحلى باخلاقياته التي وضعها في القران وشرحها وفصلها الرسول صلعم في السنة. هذا الشخص لن يستطيع ان يتغلب على حظوظ نفسه ورعوناتها، فبماذا يعدها ان اخلت له السبيل لان يعمل بامانة واخلاص؟؟؟ لا شيء لديه ليقدمه لها ، فهو لا يؤمن بالجنة ولا بالنار وربما يعتقد انه اله يشرع لنفسه ما يشاء } كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ القيامة