محطات تاريخية في تطور الإعلام المعولم منفاجنر حتى الانترنت
كمبريدج: «الشرق الأوسط»
يعتبر الاعلام متعدد الوسائط Multimedia هو عنوان الثورة الاعلامية التي نشهدها في العصر الحالي، اذ يمزج بين مختلف أنواع الاعلام والتكنولوجيا، فنجد الصوت والصورة والرسم والعمارة والنص الأدبي والمهارة اللغوية والتقنيات التكنولوجية، والبث الرقمي، واستخدام الكومبيوتر والانترنت، كل ذلك يتحالف معاً لانتاج اعلام بالغ التعقيد والكثافة والابهار. وهذا المزج لوسائط اعلامية كانت في ما مضى مفصلة عن بعضها البعض، أو يشتغل عدد محدود منها معاً في أحسن الحالات، هو الذي يمثل المعلم الأبرز لتلك «الثورة». واذا كان عديدون منا يتابعون الى هذا الحد هذا الجانب أو ذاك من ثورة تكنولوجيا الاعلام غير المسبوقة، فان قليلين منا هم اولئك الذين هضموا واستوعبوا الصيرورة التاريخية لقيام هذه الثورة ولاحقوا تطوراتها المدهشة حقبة اثر حقبة. ويأتي هذا الكتاب الثري ليكون بمثابة الوجبة الدسمة التي لا غنى عنها لمن يريد أن يربط حاضر ثورة الانترنت والميديا متعددة الوسائط ببداياتها الأولى وتوقعات كبار منظريها منذ منتصف القرن التاسع عشر. وفكرة الكتاب ذكية وممتعة في آن معاً، اذ تقوم على اعادة نشر أهم ما نشر في حقل الاعلام متعدد الوسائط خلال القرنين السابقين، ابتداء من الارهاصات الأولى وانتهاء بتعقيدات الاعلام الرقمي الفضائي والانترنتي. وتشير المقالات المتضمنة فيه كيف كان العلماء ينظرون الى المحطات الانعطافية التي كانوا يعتقدون بأنها شكلت مرحلة انقضاء احدى الوسائط الاعلامية وانقراضها، كالكتب على سبيل المثال. لكن يبقى القاسم المشترك للمقالات «التنبؤية» التي أبدعها أساطين الفن والاعلام والصورة والصوت هو كونها حامت حول «المستقبل» الذي آلت اليه فروع الفن الاعلامي المختلفة، ألا وهو حاضر الاعلام متعدد الوسائط multimedia الذي نعيشه حالياً.
فمثلاً نرى في الدراسة الأولى التي كتبها أصلاً الموسيقار والفنان الألماني الشهير ريتشارد فاغنر سنة 1849 بعنوان «العمل الفني المستقبلي» استشرافاً مثيراً لما ستؤول اليه حال مزج وسائط الاعلام المتعدد من خلال طبيعة العمل الفني الذي دعا اليه وطبقه. ففاغنر الذي كان مؤمناً بعبقرية موسيقى الأوبرا التي تؤدى أمام الجمهور على المسارح كان يرى أن ادخال الصوت والصورة والاضاءة والديكور المعماري والرسوم الخلفية كمكونات عضوية في الأداء الأوبرالي يمثل طفرة جذرية في العمل الفني لم يشهدها العالم منذ زمن الاغريق.
وفي عام 1916 أصدرت مجموعة من «المستقبليين الايطاليين» مانيفستو حول مستقبل السينما هاجموا فيه «بلادة وجمود الكتاب» مقابل «مرونة وحيوية السينما». وتوقعوا في «بيانهم» أن سنوات الكتاب باتت معدودة أمام النجاح المطرد والمتصاعد للسينما، التي اعتبروها أكثر تعبيراً عن مشاعر الانسان وقدرة على تركيب صورة متكاملة وعضوية عن معاناته وفرحه وأحلامه. وسبب هذا «التعصب» للسينما كان يعود الى ما رأوه فيها من تجمع لكل الفنون البصرية والسمعية والكتابية التقليدية، أو بكلمة أخرى صورة أولية من «الاعلام متعدد الوسائط» الذي نشهده حالياً. على أن ما تخيله فاغنر ثم أنصار سينما المستقبل الايطاليون لم يتجاوز مرحلة «التكامل integration بين عناصر «العمل الفني والاعلامي» لكن كوحدة منفصلة ومكتفية بذاتها تتعامل مع جمهور المتلقين من دون أن يتواصلوا معها. لكن الانتقال، ولو النظري في المرحلة الأولى، الى بدايات الطفرة الجذرية الثانية كان على يد نوربرت فاينر، الهنغاري الأصل، في كتابه الشهير Cybernetics عام 1948 الذي أسس لمرحلة «التواصل الحي interactivity، والتي تشكل الآن الجوهر المثير والجذاب في وسائط الكومبيوتر والانترنت والفيديو. ففاينر كتب ببصيرة ثاقبة في تلك السنوات أنه لا يمكن فهم المجتمع الا من خلال وسائل الرسائل والاتصال التي تنتمي اليه وتقوم بين مكوناته. وأشار الى أن التطورات في المستقبل في مجال هذه الرسائل وأنماط الاتصال سوف تحمل أشكال اتصال بين الانسان والآلة، وبين الآلة والآلة وبين الانسان والانسان عبر الآلة مباشرة، وسوف تتضاعف أهميتها بشكل مطرد.
وعلى هذا المنوال يتواصل الكتاب مستضيفاً العالم تلو العالم من اولئك الذي أسسوا المباديء الرئيسية لعلم الاعلام متعدد الوسائط، الى أن يصل الى عقد التسعينات من القرن الماضي الذي شهد مع نهاية القرن نهاية الأحلام البسيطة للعلماء السابقين والانطلاق الى فضاء الانترنت وألعاب الكومبيوتر المتخصصة بالحقيقة الافتراضية وحيث يشارك في هذه الألعاب أكثر من متبار ويتبادلون الاتصال والتنافس على مسرح اللعبة وكأنهم في أرض الواقع. ويرصد الكتاب هنا دراسة الاميركي بافال كيرتس عن «الحقيقة الافتراضية المعتمدة على النص وأبعادها الاجتماعية» سنة 1992 كنقطة تحول كبرى في عالم «الحقيقة الافتراضية» خاصة لأنها ليست تقنية الأبعاد فحسب بل تقدما منظوراً اجتماعيا وسيكولوجياً لهذا التطور العلمي. ولعل اختتام الكتاب بدراسة الفيلسوف ومنظر الاعلام الفرنسي بيير ليفي كان أمراً حالفه التوفيق، اذ نقرأ في دراسته المعمقة تصوراً «عولمياً» عن «الفضاء السيبري cyberspace وكيف أن هذا الفضاء بات عالماً جديداً له قوانينه وتأثيراته واندفاعاته وضغوطاته على الهياكل الاجتماعية التقليدية المعروفة. وأهم ما يرصده ليفي في هذا «الفضاء الجديد» هو تكاملية وتواصلية المبدع مع المتلقي وانتقال عملية الابداع برمتها من صفتها الفردية البحتة الى مرحلة أن تصبح ابداعياً يساهم فيه الجميع بدينامية لا تنقطع، عبر التواصل الحي والتغذية الراجعة والمساهمة المباشرة في تأسيس وتصميم العمل الابداعي، اعلاميا، كان ام اتصالياً أم فنياً. وبسبب استحواذ فكرة «الابداع الجماعي» كمميز للفضاء السيبيري الجديد فان ليفي نحت مصلحه الشهير، «الذكاء الجماعي»" الذي وضعه عنواناً لأحد أهم كتبه عن «الفضاء السيبيري» عام .1994 لا تغني مراجعة هذا الكتاب عن قراءته خاصة بالنسبة للمتابعين والمهتمين بمستقبل الاعلام متعدد الوسائط واحتمالات تطوراته وعلاقتها العضوية بالمسارات التي سار فيها. والملاحظ في معالجات الكتاب، خاصة في المقدمة التي كتبها المحرران، وفي تقديم الفصول وفي انتقاء الدراسات نفسها أن المحررين ابتعداً عن اقحام السياسة والتوظيف السياسي وتحليل تطور هذا الحقل من الاعلام بالسياسة. واذا كان البعض قد يرى في هذا الامر تجاهلاً لعامل مهم في رسم مسارات تطور الاعلام المعولم، فان نفس هذا الأمر قد يرى كايجابية للكتاب أبعدته عن سجالات السياسة وأبقته في دائرة ما هو ممتع.
منقول للفائدة