أصبحت وسائل الإعلام الجماهيري تلعب دورا هاما في تنمية المجتمعات و إحداث التغييرات في السلوك والأنشطة، وقد قامت كثير من الدراسات والبحوث التي تبحث في العلاقة بين الإعلام والتنمية ، إذ أن العلاقة بين الإعلام و التنمية علاقة أزلية وقديمة وترتبط بالفطرة البشرية كنشاط طبيعي في الحياة اليومية، ويؤرخ بنهاية العقد الخامس من القرن الماضي للاهتمام بدور وسائل الإعلام في التنمية ، وقد أعدت اليونسكو دراسات حاولت من خلالها طرح المشكلة وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في مطلع 1962 قرارا دعت فيه لتطوير وسائل الإعلام في التنمية، وقد أشار ولبور شرام في كتابه (Mass Communication and National Development) إلى أن الأدوار بين الإعلام والتنمية تتمحور في دور الإعلام في توسيع آفاق الناس ويمكنها أن تلعب دور الرقيب ، ويمكنها أن تشد الانتباه إلى قضايا محددة ، وكذلك يمكن أن ترفع طموحات الناس ، وان تصنع مناخا ملائما للتنمية إضافة لما لوسائل الإعلام من وظائف ومهام تعليمية ودور في صناعة القرار.
وقد كان للجنة الدولية لدراسة قضايا الإعلام المنبثقة عن اليونسكو والتي نشر تقريرها في عام 1980 وكان للتقرير نتائج هامة على بنية الإعلام ووظائفه وخاصة في مجال التنمية، وقد شكلت هذه اللجنة برئاسة شون ماكبرايد وعضوية اعلامييين ومفكرين من مختلف مناطق العالم، وتوصلت هذه اللجنة إلى بعض المعايير التي يمكن أن تشكل مرجعية وإطارا لأي سياسة إعلامية تنموية، باعتبار أن الدور التنموي للإعلام يضع أسس للحوار الايجابي بسبب ارتباطه بطبيعة تطور المجتمعات واختلاف الاولويات التنموية وبتعدد السياسات المتعلقة بمفاهيم التنمية من جهة والإعلام من جهة ثانية وتأثرها بالتطور العاصف في التقنيات.
المسئوليات التي تقع على عاتق الإعلام في النهوض بالمجتمع وإنسانه تجعل من العلاقة بين الإعلام والتنمية أكثر تقاربا خاصة في دول العالم الثالث، بحيث أن الجهة المسئولة عن الإعلام وعن التنمية هي الحكومات، فالحكومات هي التي تسيطر على وسائل الإعلام وفي الوقت ذاته هي التي تقترح خطط التنمية وتنفذها، وأيضا لا يعقل إمكانية حدوث تنمية دون مشاركة جماهيرية، وحينها يصبح دور وسائل الإعلام حيويا في توعية الجماهير وتعبئتها من اجل بذل الجهود من اجل التنمية، إذ من المعلوم أن وسائل الإعلام تقوم بدور فعال في صياغة الرأي العام وتشكيله إزاء كل القضايا التنموية المطروحة، ويلاحظ أن الإعلام في الدولة النامية يتبنى نظريات ووجهات النظر الغربية في كيفية استغلال وسائل الإعلام في تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية والثقافية ، ولعل ولبور شرام أشار إلى تبني الدول النامية وجهات النظر الغربية في استخدام وسائل الإعلام لتحقيق التنمية أدت لظهور ما يطلق عليه الإعلام التنموي والذي تعرفه نورا كويبرال بقولها
الإعلام التنموي هو فن وعلم الاتصال الإنساني الذي يستهدف الإسراع في تحول بلد من الفقر إلى حالة ديناميكية من النمو الاقتصادي، والذي يوفر إمكانية أعظم للمساواة الاقتصادية والاجتماعية، وإنجازا أعظم للإمكانيات البشرية).
متطلبات الإعلام التنموي:ولدراسة حدود العلاقة بين الإعلام والتنمية، فهذا يستلزم:
1. فهم طبيعة عملية الاتصال، والذي يؤدي إلى إدراك أنها عملية مشاركة يكون فيها الاهتمام بجمهور المتلقين ورجع صداهم أمرا هاما في نجاحها وخاصة في البرامج ذات الصبغة التنموية.
2. فهم وظائف الاتصال، إن للاتصال مجموعة وظائف وهي: وظيفة الإعلام، وظيفة التعليم، وظيفة تغيير السلوك والمواقف، وظيفة الترفيه ووظيفة الرقابة، وإدراك هذه الوظائف مهم في عملية التنمية إذ تسهم في الشعور بالانتماء للدولة، وتهيئة الناس ليؤدوا مهام جديدة وليلعبوا دورهم كأمة بين الأمم فضلا عن تزويد المجتمع بمعلومات حول القضايا المحلية والوطنية والقومية والدولية.
3. فهم نظريات التأثير لوسائل الاتصال على المستوى الفردي والجماعي والمجتمعي، وما تقدمه من فهم لطبيعة وميزات كل وسيلة من وسائل الاتصال، وما تقدمه من فهم للمتغيرات التي تؤثر على عملية الاتصال ومن أهمية للتخطيط الاتصالي القائم على البحوث التجريبية والميدانية والمسحية وتحليل المضمون للوسائل الإعلامية.
فان الإعلام التنموي من غير تخطيط سينتج إعلاما تمتلك مؤسساته أحدث معدات التقنية الاتصالية من محطات إذاعة مسموعة ومرئية ومطابع واستديوهات إنتاج وقدرة على الإرسال تمتد لساعات طويلة بكل اللغات، وقدرة على شراء البرامج من حيثما توافرت وبأي الأسعار، إلا أن ذلك كله سيصبح غير قادر- مع غياب خطة لإعلام تنموي - أن يحقق الأهداف الوطنية المنشودة في تحويل المنجزات الكمية إلى منجزات نوعية، وفي إنجاز البني الأساسية للبشرية.
ويرى الان هانكوك "إن مبررات التخطيط للاتصال هي عموما نفسها مبررات التخطيط للتنمية، وذلك إن التنمية تتطلب طرق توظيف وتنسيق والمحافظة على إعداد قد تتطلب مؤسسات تدير الموارد بطريقة متكاملة، والتخطيط للاتصال مبدأ مركزي وأساسي لان موارد الاتصال مقارنة بالموارد الأخرى هي موارد مادية وبشرية ومن خلال عملية تنميتها تكمن أهميتها كنشاط اقتصادي وكوسيلة لمتابعة النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، ولذا يمكن لوسائل الإعلام أن تستفيد من الأسلوب المخطط والمتكامل والذي يحتاج إلى إيجاد أساليب وبنى يمكنها ان تعزز أو تشجع هذا التكامل.
إن التخطيط للإعلام التنموي يحتاج إلى مقومات أساسية أولها توافر المعلومات والتي يمكن أن توفرها بحوث الاتصال، و تحتاج إلى قائمين بالاتصال مدربين و واعين لدور الإعلام ونظرياته و تأثيره وواعين لطبيعة الجمهور وحاجاته، وتحتاج كذلك إلى وعي اجتماعي بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومراعاة المتغيرات التي يقع بعضها في دائرة المتغيرات الاتصالية من مرسل ، مستقبل ،رسالة ، جمهور وعناصر تشويش ورسائل منافسة
وترتبط السياسة الاتصالية وتتوافق مع طبيعة النظام السياسي، الاقتصادي و الاجتماعي القائم في المجتمع، وتتعلق ببنية النظام وسياساته و التشريعات و القوانين والأنظمة، وبالواقع الطبقي والاقتصادي، وبالتقاليد والعادات وسلم القيم في المجتمع، وبالمرحلة التي قطعتها التنمية وبطبيعة الحال تتأثر بالتعددية والاعتراف المتبادل في المجتمع المدني.
نجد أن الدول النامية التي تتبنى الخط الاشتراكي تنظر للإعلام كأداة جوهرية لعملية التنمية السياسية والاجتماعية لا بد وان يخضع لسيطرة الدولة وتخطيطها وتوجيهها. أما الدول التي تسير في فلك الدوائر الرأسمالية فنجد إنها تعطي أهمية كبرى لتعليم الصغار و محو أمية الكبار ومع ذلك فهي لا تعطي أهمية لوسائل الإعلام، إذ لا تفكر النخبة الحاكمة في هذه الدول في التأثيرات الهدامة للإعلام والتي تأخذ شكل الانحراف أو الفوضى أو اللامبالاة.
الاهتمام بالتعرف على الانعكاسات والآثار الخاصة بالعملية الإعلامية في التنمية، إذ تنعكس اثأر الظاهرة الايدولوجية على الظاهرة الاتصالية في الآتي
الأولى هي عملية التخطيط الإعلامي، إذ يعد التخطيط من الجوانب الأساسية للاتصال التنموي، والثانية هي عملية تحديد الأهداف الإعلامية و أهداف السياسة الاتصالية والثالثة هي عملية صنع الأهداف الإعلامية.
ونجاح الخطط التنموية هو رهين مشاركة القوى الحية والمنتجة، ولن تتم هذه المشاركة-بصفة شاملة وايجابية- ما لم يقع إعلام المعنيين وتوعيتهم وتحسيسهم وتربيتهم وتثقيفهم، لذلك تعيّن ضبط سياسات إعلامية وطنية تحدد الاولويات وتضبط الوسائل المعتمدة قصد بلوغ الأهداف).
لكن رغم هذا التباين في وضع الإعلام في الدول النامية إلا إن هناك بعض الخصائص المشتركة للإعلام في هذه الدول التي ترتبط بكون الدولة دولة نامية وبصرف النظر عن نظام الحكم فيها ومن أهم هذه الخصائص:
- ضآلة انتشار وسائل الإعلام في الدول النامية، و كذلك نجد إن الخدمة الإعلامية تغطي نسبة ضئيلة من السكان، كما يتركز معظم سكان الدول النامية في الريف فتصلهم نسبة ضئيلة جدا من الخدمة الإعلامية.
- تحتل الكلمة المكتوبة في الدول المتقدمة المرتبة الأولى بينما تمثل هذه المرتبة في الدول النامية الكلمة المسموعة (الراديو).
- الطابع الحضري هو عادة الطابع المسيطر على المادة الإعلامية، فهي لا تلقى اهتماما من جانب قطاع كبير من جمهور الدول النامية وهم سكان الريف، حيث لا تمس حياتهم أو مشكلاتهم أو اهتماماتهم، وذلك يرجع للتوجه الحضري لمعديها و المسئولين عنها.
- تفتقر الدول النامية إلى المعرفة العلمية التي تلقي الضوء على الاتصال الجمعي سواء بالنسبة لأساليب الاتصال التقليدية أو بالنسبة للإعلام و وسائله ومدى فاعليتها والاستجابة لرسائلها.
التنمية قبل كل شئ تنمية بشرية وثقافية تستلزم إحداث تغييرات جوهرية في الفعل والسلوك في الآراء والاتجاهات والمعتقدات والقيم وطرق التفكير، مما يستلزم إيجاد الوعي بالحاجة إلى التنمية والتغيير، و هناك إجماع على إن وسائل الإعلام بما تقدمه من معلومات تتيح الانفتاح على الدول المتقدمة و تهيئ على الأقل المناخ الصالح للتنمية والتغيير، ويرى علماء الاتصال انه بدون استثارة طموح الأفراد وحثهم على الكفاح من اجل حياة أفضل فان التنمية تصبح مستحيلة، وكذلك تنجح وسائل الإعلام في إثارة الاهتمام وتركيز الانتباه على عادات وممارسات تقنية جديدة تساعد على إدراك الأفراد بالحاجة إلى تغيير بعض عاداتهم وأنماط سلوكهم.
دور الإعلام في التنمية (رؤية المدرسة الاشتراكية):
تتسم العلاقة المركبة بين الإعلام والتنمية بالتداخل والتفاعل لدرجة يصعب معها وضع تعريفات محددة للإعلام والتنمية خصوصا في الدول النامية، فالتنمية عملية تهدف إلى إنضاج و تهيئة الأساس المادي والموضوعي للتطور المجتمعي الشامل من خلال التأثير في سلوك الأفراد والجماعات، و من هنا يبدأ دور الإعلام الذي يظل محكوما بقدرة التطور الاقتصادي على خلق الشروط الجديدة والعلاقات والعادات الجديدة، وقد اكتسب الإعلام أهمية قصوى في عملية التنمية من خلال كونه ابرز أداة تستطيع إن تعكس الصراع الأيديولوجي و السياسي بين التيارات الفكرية والقوى السياسية المختلفة، وكذلك من خلال التطور الهائل الذي طرا على وسائل الإعلام منذ اختراع المطبعة عام 1455 والسينما 1895 و ظهور الإذاعة 1935 و أخيرا الأقمار الصناعية والشبكة العالمية للمعلومات (الانترنت) الأمر الذي ضاعف من قوته وتوسعه وشموله، وذلك جعل الإعلام قوة عظيمة تمارس تأثيرا غير محدود في مجال التنمية من حيث تهيئة الشروط الموضوعية لتنفيذ برامجها وتقويمها وتحديد اتجاهاتها من خلال التوعية السياسية والثقافية والفكرية و الاجتماعية.
هذا ويتركز محور العمل الإعلامي في عملية التنمية كما يحدده منظرو المدرسة الاشتراكية في مدى تأكيده على وحدة النظرية والتطبيق من خلال تمثل الإعلام واستيعابه لمحتويات خطط التنمية بأهدافها العامة الكمية والنوعية و الأهداف التفصيلية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بها ثم نقل هذا المحتوى إلى الجمهور، فالإعلام يمارس عملية إقناع الجماهير بصحة هذه الأهداف من خلال تحليل النظام الاقتصادي و طبيعة التركيب الطبقي للمجتمع و التناقضات الاجتماعية ومظاهر التقدم والتخلف وعلاقة كل هذه العوامل بخطط التنمية وبرامجها، فعملية التوعية التي يقوم بها الإعلام في إطار التنمية فهي أساسا تحويل الفكر إلى قوة مادية ملموسة من خلال الارتفاع بوعي الجماهير إلى مستوى فهم السياسة و تطبيقاتها.
دور الإعلام في التنمية (رؤية المدرسة الغربية):تؤكد المدرسة الغربية على أهمية الإعلام والاتصال باعتباره ابرز مكونات النظام السياسي المعاصر بل إن بعض الأساتذة الأمريكيين ينظرون إلى النظام السياسي باعتباره شبكة من الاتصالات أو القنوات الاتصالية وان النظم الفرعية أي الأحزاب وجماعات المصالح ووسائل الإعلام عبارة عن نظم اتصال مصغرة وان النظام السياسي هو نظام تاريخي له ذاكرة ولديه طوفان مستمر من المعرفة، وكذلك يرون إن الاتصال يلعب دورا كبيرا في إطار النظام السياسي ويقترحون تناول التنمية من خلال منطلق اتصالي يركز على ثلاث حقائق أساسية هي:
• إن الاتصال كعملية يتخلل السياسة كنشاط.
• يمكن وصف جوانب الحياة السياسية كأنماط للاتصال.
• شمولية عملية الاتصال ومرونة الإطار المرجعي لعلم السياسة.
وترى المدرسة الوظيفية في الغرب إن هناك ثلاث وظائف عامة لجميع النظم السياسية هي:
• الاتصال
• التعبير عن المصالح
• تجميع المصالح.
وفي دول العالم الثالث تتدخل الحكومات بشكل مباشر في وسائل الإعلام وتحديد مسئولياتها مما يؤثر سلبا على نوعية الرسائل الإعلامية والاختيارات المتاحة و كذلك يؤثر على نوعية الكوادر المؤهلة لقيادة المؤسسات الإعلامية، فضلا عن دورها في تكريس التبعية الثقافية و الإعلامية.
العلاقة بين وسائل الإعلام وحكومات الدول النامية: عند دراسة أبعاد العلاقة بين وسائل الإعلام والحكومات في دول العالم الثالث والتي يحكمها قانون السيطرة شبه المطلقة من جانب الحكومات والتبعية من جانب وسائل الإعلام، يمكن الخروج بالنتائج التالية:
• تركيز كتاب الأعمدة والمقالات الصحفية على مشكلات جزئية و فردية والاعتماد على التوصيات المبتورة مع التركيز على القيم الفردية.
• إن الصفحات الخارجية في معظم صحف العالم الثالث تعتمد على وكالات الأنباء الغربية بنسبة كبيرة.
• تركز الصحافة المتخصصة مثل صحف المرأة والطفل على القضايا والاهتمامات التقليدية والجانبية.
• تطرح صحافة العالم الثالث المواقف الرسمية لحكوماتها تجاه القضايا القومية.
• وقد سادت نظريات التنمية الغربية في دول العالم الثالث والتي تدور حول محور واحد رئيسي، هو إن الطريق الوحيد أمام الدول المتخلفة لتحقيق النمو يكمن في ضرورة انتهاج نفس الأسلوب الذي اتبعته الدول الرأسمالية المتقدمة لاعتقادهم إن الفارق بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ليس إلا فارقا زمنيا وان التنمية لا تعني أكثر من تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، ويرى أصحاب هذه المدرسة انه يمكن كسر حلقة التخلف من خلال تشجيع تزايد الدخول الكبيرة على حساب العدالة الاجتماعية، والاستعانة براس المال الأجنبي في زيادة حجم الاستثمار على حساب الاستقلال الاقتصادي.
يتضح إن الإعلام في دول العالم الثالث قد قام بدور رئيسي في ترويج فكر التبعية وتوجيه الوعي السياسي والاجتماعي لصالح النخب الحاكمة في الداخل والخارج، على الرغم من تعدد الدلالات الكمية التي تؤكد جوهر التبعية الثقافية والإعلامية من جانب دول العالم الثالث للدول الرأسمالية، إلا إن أشدها خطورة هو ما يتعلق بمضمون الرسائل الإعلامية التي تبثها و سائل الإعلام الدولية و ابرز ما يميزها هو انعدام العلاقة بين مضمون هذه المواد الإعلامية و بين الواقع الاجتماعي والثقافي السائد، وكذلك يتنافى مع طبيعة المشكلات التي تواجه شعوب تلك الدول، خصوصا التوجهات ذات الطابع الوطني في مجال التنمية.
وقد تأثر أصحاب التيارات الداعية إلى انتهاج النهج الرأسمالي في التنمية، بما قدمته المدرسة الأمريكية في الإعلام من دراسات ونظريات إعلامية خاصة بالتنمية استهدفت إبراز الدور المؤثر الذي يمكن إن تقوم به وسائل الإعلام في تثقيف الشعوب النامية وحثها نحو انتهاج نفس الطريق الذي سلكته الدول الصناعية المتقدمة، ويصبح دور الإعلام هو نقل هذه الشعوب من النمط التقليدي إلى التحديث، من خلال تشجيعها على نبذ الأساليب التقليدية وترغيبها في الأنماط الاستهلاكية، وقاد هذا التوجه أساتذة معهد ماساشوستس التكنولوجي أمثال "دانيال ليرنر، فردريك فراي، ايثيل دي سولا بول ولوسيان باي"، إذ يرون إن التنمية في العالم الثالث لن تتحقق إلا بزيادة التعمير و نشر التعليم مما يؤدي إلى زيادة استخدام وسائل الإعلام والى زيادة الدخول لدى الأفراد وبالتالي تزداد المشاركة السياسية.
تتفق جميع نظريات التنمية الاقتصادية أن جوهر التنمية الاقتصادية هو زيادة سريعة في القوة الإنتاجية والاقتصادية للمجتمع.
ويرى فريدريك هاربيسون: إن تقدم امة من الأمم يعتمد أولا وقبل كل شئ على تقدم شعبها، فما لم تنم الأمة روح الشعب والطاقات البشرية فهي غير قادرة على إن تنمي أي شئ آخر، ماديا أو اقتصاديا أو سياسيا أو ثقافيا، والمشكلة الأساسية لمعظم الدول المتخلفة ليس الفقر في الموارد الطبيعية وإنما التخلف في الموارد الإنسانية، ومن هنا كان واجبها بناء الأفراد أو بناء رأس المال البشري، ومعنى هذا رفع مستوى التعليم و المهارات وبث الأمل في نفوس الناس، وبالتالي تحسين الصحة العقلية والجسمانية لرجالها ونسائها وأطفالها.
الحقيقة إن المواقف في معظم الثقافات التقليدية تميل إلى إن تكون عدائية نحو التغيير وتفتقر إلى الدافع الاقتصادي، وقد كتبت كوسوم نير في بحث أجرته عن قرية هندية
إدخال أساليب جديدة من الخارج في هذه الظروف لا يساعد إلا إلى حد محدود، فما لم تنبع الرغبة في التغيير و في مستويات المعيشة الأعلى من صميم المجتمعات الريفية فقلّ إن تجد لهذه الأساليب قبولا أو إن تستغل استغلالا تاما.
وقد ذهب إلى ذلك أيضا جون كونديف بقوله: ( إن ثورة التطلعات الصاعدة تتطلب قدرا كبيرا من الترجمة إلى الدافع الاقتصادي قبل إن تصبح قوة مؤثرة للتنمية الاقتصادية، الدافع الذي يتضمن تغييرا في القيم، ما لم يكن المواطن العادي في الدول النامية الرغبة في تعليم أولاده لدرجة التضحية في هذا السبيل فلا يحتمل إن يكون هناك تنمية تذكر، لا بد إن ترغب في التعليم وفي الكفاية لدرجة التضحية بوقت الفراغ و بعض العادات ذات التكاليف الباهظة.)
ويرى دافيد ماكليلاند في كتابه "المجتمع المنجز" إن هناك مهام إضافية للإعلام في داخل المهمة الرئيسية لتعبئة الموارد البشرية، إذ لا بد إن يتلقى الناس المعرفة التي يحتاجونها كي يستقر رأيهم فيما يتعلق شيئا على الإطلاق، بيد إن ماكليلاند يعتقد انه بدون إعلام كاف فلن يكون هذا القرار قوميا أبدا لأنه لم يَنُبنِ على إرادة شعبية و لا على دليل سليم.
وذلك ما دعا ليرنر للإشارة في تحليله لتاريخ التحول العصري في البلدان النامية إن العملية تحدث على ثلاث مراحل
أولا يحدث التحضر "في بيئة المدينة الحضرية"، فالمدن وحدها هي التي تقوم على تنمية المهارات والموارد وهي مسألة معقدة تميز الاقتصاد العصري، وفي داخل هذا الرحم الحضري يتكون كلا الشيئين المميزين للمرحلتين التاليتين، وهما تعلّم القراءة والكتابة ونمو أجهزة الاتصال، وهناك علاقة متبادلة بين هذين الشيئين، فمن يقرءون ويكتبون ينمون الأجهزة، والأجهزة بدورها تنشر القراءة والكتابة، و لكن القراءة والكتابة من وجهة نظر تاريخية هي التي تؤدي الوظيفة الرئيسية في المرحلة الثانية، فالقدرة على القراءة التي تكتسبها في البداية قلة نسبية من الناس تعدهم لأداء المهام المتباينة التي يتطلبها المجتمع المتحول نحو العصرية، ثم تجئ المرحلة الثالثة عندما تتقدم التكنولوجيا الحديثة التي هي من نتاج التنمية الصناعية فيبدأ المجتمع في إنتاج الصحف وشبكات الراديو و أفلام السينما على نطاق ضخم، هذا بدوره يعجّل بنشر القراءة والكتابة، هذا التفاعل هو الذي يؤدي إلى قيام مؤسسات المشاركة، تلك التي نراها في جميع المجتمعات العصرية المتقدمة، ويخلص ليرنر من ذلك إلى إن هناك علاقة متبادلة بين مقاييس النمو الاقتصادي ومقاييس النمو الإعلامي، بمعنى انه كلما زاد الدخل القومي للفرد والتحضر والتصنيع زاد أيضا تعلم القراءة والكتابة و معه توزيع الصحف و كل التسهيلات الإذاعية و التلفزيونية و كل المقاييس الأخرى لوسائل المشاركة.)
الباحث الهندي ي.ف.ل.راو بدراسته للعلاقات التي أوردها "ليرنر" قال) عندما يجئ الإعلام من الخارج إلى جماعة منعزلة فهو يضغط زناد التغيير، هذا الإعلام والمزايا الاقتصادية الناجمة عنه يفيد في البداية الأثرياء و أصحاب السلطان، و شيئا فشيئا تلحظ الجماهير التغييرات وتسأل الأسئلة، فإذا ما تيسرت قنوات الإعلام فان هذه الأسئلة تجد الجواب، و إذا تنوعت قنوات الاتصال واتسعت قاعدتها فان التغييرات الناتجة عن الأفكار الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية الزاحفة إلى الجماعة تكون يسيرة لا عسر و لا عنف فيها، وإذا كانت قنوات الإعلام مقيدة تسيطر عليها القلة فالتغيير من العسير حدوثه ويؤدي غالبا إلى ما يزيد من الخلافات، فمقدار الإعلام المتاح واتساع مداه عامل أساسي في تعجيل التنمية وتيسيرها.)
ومن أحسن الطرق لتوسيع قنوات الإعلام هو استخدام الأجهزة الجماهيرية، وتحسين الاتصال كما يقول هولمبرج ليس يعني مجرد تعليم الناس القراءة والكتابة أو نقل الإعلام عن طريق الكلمة المكتوبة، فكثير من الناس في المناطق البعيدة لم يتعلموا كيف ينظرون إلى الصورة الفوتوغرافية بالطريقة التي تجعلهم يدركون معناها الكامل.
ميزات وسائل الاتصال الجماهيري المستخدمة في الإعلام التنموي:
1. الإذاعة: هي الوسيلة الأولى المعتمدة في إرسال الرسائل الإعلامية المتعلقة بالتنمية وتلقيها من قبل الجمهور الريفي خصوصا. وقد لعب المذياع دورا هائلا إذ لا يخضع كغيره من وسائل الاتصال الجماهيري إلى قنوات توزيع كالصحافة المكتوبة، أو الكهرباء في التلفزيون. وتلجأ المنظمات المهتمة بالإعلام التنموي مثل اليونسكو إلى إنتاج برامج إذاعية لا تتعدى الدقيقتين وتبني نوادي الاستماع.
2. التلفزيون: يأتي التلفزيون في المرتبة الثانية من حيث أهمية التلقي و التأثير، فسحر الصورة وتأثيرها على الجماهير الريفية بالغ الأثر، ولكن ينبغي الأخذ في الاعتبار محدودية هذه الوسيلة في الاتصال الجماهيري المتعلق بالإعلام التنموي، وقد تبين من خلال التجربة في بعض المجتمعات النامية، أن محاسنه تتكافأ مع مساوئه و ربما تكون دونها وذلك لأسباب أهمها ضرورة تقييم احتياجات الجمهور المستهدف التي يعبر عنها أو يضمرها في دواخله عندما تقدم برامج التعليم بواسطة التلفزيون، ثم ضرورة تكوين منشطين أكفاء يتابعون حصص البث وأخيرا توفر الوسائل المساندة. وتقع معظم الدول النامية في أخطاء تصميم الرسالة التعليمية عبر التلفزيون، إذ لا يكترثون إلى تبين الاحتياجات ويخلطون بينها وبين الأهداف، أو يتجاهلون التقاليد والأعراف السائدة في المنطقة المستهدفة.
3. الصحافة المكتوبة: تأتي أهمية الصحافة المكتوبة في المرتبة الأخيرة من الأهمية، نسبة لامية الجمهور المستهدف وتشتته العمراني، وضعف قنوات التوزيع يحد من استغلالها كوسيلة اتصال جماهيري فاعلة.فالصحافة تصدر في المدن الكبرى، وتستقي أخبارها ومعلوماتها من وكالات الأنباء التي أيضا تتمركز في المدن الكبيرة فلا تهتم بقضايا إنسان الريف وأخباره وقلما تهتم بالتنمية الريفية، إلا في حدود ضيقة تتزامن مع زيارات رسمية لبعض المسئولين.
وضعية الإعلام التنموي في الدول النامية:
إن المفكرين في الدول النامية ورجال التنمية خاصة لم يهتموا بالإعلام ولم يدركوا دوره في التنمية وصرفوا اهتماماتهم إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتنمية ومتطلباتها ومقوماتها و احتياجاتها متجاهلين أهمية الإعلام في التنمية ودوره مفترضين إمكانية نجاح التنمية بلا إعلام، ولم يروا دوراً للإعلام إلا في قضايا ثانوية وغير شاملة مثل قضايا السلوك اليومي وقواعد المرور والطب الوقائي والإرشاد الزراعي، وتجاهلوا العلاقة الوثيقة بين الجماهير والتنمية من خلال تجاهلهم لدور الجمهور حيث المجال الفعال للإعلام ولأهمية تفاعل الناس مع التنمية وإهمال حق الناس في التعبير عن التنمية وتواصلهم مع قيادات عملياتها وعدم اهتمامهم بمعرفة رجع الصدى الذي يمكن أن تقدم وسائل الإعلام خلاصته لهم، ويضاف إلى ذلك عدم اهتمام خطط التنمية في البلدان النامية بتدريب إعلاميين في شئون الإعلام التنموي وتركت وسائل الإعلام تجتهد وتتحول إلى أبواق بالمنجزات التي قد تكون وهمية في أحيان كثيرة والتي توهمت وسائل الإعلام بأنها التنمية بعينها، الأمر الذي جعل وسائل الإعلام تهمل تأكيد مفاهيم ثقافية وقيمية وتربوية جديدة ترافق خطط التنمية.
وقد خلصت الدراسات الى ايجاد النظرة التنموية التي تتفق وبيئة الدول النامية وقد ظهرت هذه النظرية في عقد الثمانينات من القرن الماضي، وتقوم على الأفكار والآراء التي وردت في تقرير لجنة مشكلات الاتصال في العالم الثالث، فهذه النظرية تخرج عن نطاق بعدي الرقابة والحرية كأساس لتصنيف الأنظمة الإعلامية ، فالأوضاع المتشابهة في دول العالم الثالث تحد من إمكانية تطبيق نظريات الإعلام التقليدية لغياب العوامل الأساسية للاتصال كالمهارات المهنية والمواد الثقافية والجمهور المتاح.وتتلخص أفكار هذه النظرية في النقاط التالية:
• إن وسائل الإعلام يجب أن تقبل تنفيذ المهام التنموية بما يتفق مع السياسة الوطنية القائمة.
• إن حرية وسائل الإعلام ينبغي أن تخضع للقيود التي تفرضها الأولويات التنموية والاحتياجات الاقتصادية للمجتمع.
• يجب أن تعطي وسائل الإعلام أولوية للثقافة الوطنية واللغة الوطنية في محتوى ما تقدمه.
• إن وسائل الإعلام مدعوة في إعطاء أولوية فيما تقدمه من أفكار ومعلومات لتلك الدول النامية الأخرى القريبة جغرافيا وسياسيا وثقافيا.
• إن الصحفيين والإعلاميين في وسائل الاتصال لهم الحرية في جمع وتوزيع المعلومات والأخبار.
• إن للدولة الحق في مراقبة وتنفيذ أنشطة وسائل الإعلام واستخدام الرقابة خدمة للأهداف التنموية