مجالات تطبيق السيميائيات
يطبَّق المنهج السيميائي في مجالات متعددة ومتنوعة، ويستعمل في معالجة العلامات اللغوية (النص الشعري مثلا) وغير اللغوية (اللوحة التشكيلية مثلا). ولا شك في أن الدارسين الغربيين قد حازوا قصب السبق والتفوق في هذا الشأن. يقول بيرس في إحدى رسائله إلى اللايدي ويلبي (Lady Welby) مشيرا إلى جدارة المنهج السيميوطيقي وصلاحيته لمقاربة مختلف الأشكال العَلامية: "لم أستطع أبدا دراسة أي شيء -رياضيات، أخلاق، ميتافيزيقا، جاذبية، دينامية الحرارة، بصريات، كيمياء، علم التشريح المقارَن، علم الفلك، علم النفس، صوتيات، اقتصاد، تاريخ العلوم، لعبة الورق، رجال ونساء، خمور، قِياسة –إلا وَفْق الدراسة السيميوطيقية".[73]
وقد وظف كريستيان ميتز المنهج السيميائي في دراسة السينما؛ أي الأشرطة السينمائية والأفلام باعتبارها علامات سمعية-بصرية. وصدرت له في هذا الصدد مجموعة من الكتابات والدراسات؛ من ذلك كتابه الهام الموسوم ب"Essais sur la signification au cinéma" والذي يقع في جزأين اثنين. وقد تحدث فيه –بإفاضةٍ- عن الخُدَع السينمائية، وعالجها معالجة سيميولوجيةً، وقسمها إلى ثلاثة مستويات، هي: مستوى الكاميرا (التقاط الصورة)، ومستوى المشهد السينمائي (عمل الممثلين)، ومستوى تركيب الفيلم. كما أنجز ميتز عملا أكاديميا أكثر تنظيرا في السيميولوجيا، وهــو" Langage et cinéma" الذي نُشر في باريس عام 1971. وقد استند فيه إلى معارفه النظرية حول السينما الروائية. وللرجل دراسة أخرى بعنوان (Le signifiant imaginaire-Psychanalyse et cinéma)، صدرت عام 1977. وفي كتابه "Essais sémiotiques"، تحدث ميتز عما أسْماه "سيميولوجيا السينما"... فهذه الدراسات وغيرُها تؤكد أن ميتز رائد في تجريب المنهج السيميائي في دراسة السينما. وقد اعتبرته برنارد توسان "مؤسس سيميولوجيا السينما".[74] ومما قاله الرجل في هذا المضمار: "السيميولوجيا السينمائية جد حديثة، لكي تضطلع بعدة تطبيقات في كل مرة، جزء برنامجها الذي يعنى ببلورة نظام المكونات الفيلمية الكبرى، يبدو أنه قد اكتمل لكي نتمكن من عرض تطبيقه على الشريط المصور لفيلم بكامله".
وبعد ميتز، تطورت الأعمال السيميولوجية المتمحورة حول دراسة السينما، وبلغت شأوا بعيدا. وقد ساعدها في ذلك مجلات كثيرة، منها مجلة (ça) الباريسية التي كان لها الفضل في نشر عدد من الأبحاث والمقالات في هذا الاتجاه.
وطُبق المنهج السيميائي في مجال دراسة اللوحات الإشهارية والمُلْصَقات. وذلك بالنظر إلى التطور الكبير الذي شهده الإشهار، وإلى قابليته الواضحة للمقاربة السيميولوجية. تقول توسان: "الإشهار بالرغم من مناهِضيه (باسم إيديولوجيا شبه يِسارية أو نظرة قِـيمية لأشكال التعبير)، سوف يصبح الوسيلة الكبرى للتعبير الأيْقوني والسمعي –البصري في عصرنا هذا، ومجال استثمار كبير يضاهي الاستثمارات الخاصة بكاثيدرائيات العصر الوسيط".[75]
ومن الدارسين البارزين في هذا الميدان رولان بارث الذي كتب مجموعة من الأبحاث في معالجة الملصقات واللوحات الإشهارية. ومن ذلك دراسته الموسومة "ببلاغة الصورة" (Rhétorique de l'image)[76] التي حلل فيها صورة إشهارية لشركة بانزاني (PANZANI) المختصة في صناعة المعجونات. وهو بذلك لا يسعى إلى "تأسيس علم لتحليل الإشهار، وإنما يسعى بصفة عامة إلى وضع "بلاغةٍ للصورة" كما يدل على ذلك عنوان الدراسة".[77]
وبالإضافة إلى بارث، تناول جورج بينينو (G. Peninou) الإرسالية الإشهارية، ودرسها في كتابه "Intelligence de la publicité : étude sémiotique" الصادر عام 1972. واهتم بهذا الموضوع كذلك جوردان (Jourdain)، ولابروز (Laprose)، ودورون (Durand) الذي يعد "أكبر منظِّر معاصر للأبحاث السيميولوجية حول الإشهار".[78]
لقد ظهرت مجموعة من الدراسات السيميولوجية في القصة المصورة (Band dessinée) بوصفها شكلا أدبيا موجها إلى الأطفال بصورة رئيسة. ويعد بيير فريزنولت دورييل (P. F. Deruelle) رائدا في هذا المجال وذلك بأطروحته الجامعية التي أنجزها عام 1970، وصدرت عن دار (Hachette) الفرنسية عامين بعد ذلك.
واستُعمل المنهاج السيميائي في فن الرسم وفي قراءة اللوحات التشكيلية، وذلك مع أوبيرداميش (E.Damish) وجون لويس شيفر (J.L. Schefer) ولويس مارتان (L. Martin).. واستعمل كذلك في قراءة الصور الفوتوغرافية، وفي دراسة المسرح كما عند هيلبو. وطَبق بعضهم السيميولوجيا في مجال الموسيقى، وظهرت كتابات ومقالات قيمة في هذا الشأن، وكانت مجلة (Musique en jeu) المَحْضَن الأول للدراسات السيميولوجية الموسيقية عامي 1970 و1971م. إلا أنه "ليس من السهل تأسيس السيميائية الموسيقية؛ لأنها لا تعتمد فقط على المادة الموسيقية، ولكن أيضا على المادة الصوتية الموسيقية".[79]
يتعلق كل ما سبق ببعض العلامات غير اللسانية التي عولجت معالجة سيميائية. أما العلامات اللسانية، فقد حظيت باهتمام أعداد كبيرة من الباحثين. وهكذا، توسل كلود بريمون (C. Bremond) بالمنهج السيميائي في دراسة الحكاية في كتابه "Logique du récit"، وذلك تحت تأثير الشكلاني الروسي فلاديمير بروب (V.Propp) الذي احتفل كثيرا بدراسة الأدب الفولكلوري. في حين طبق تودوروف هذا المنهج في مجال الرواية، ووظفته كريستيفا في تحليل الأشعار وقراءتها... ودرس جون بودريار (J. Baudrillard) في كتابه Système des objets)) بشكل سيميوطيقي جداً دلالةَ الأشياء... الخ.
السيميائيات : خصائصها وعلاقاتها بالمجالات الأخرى ونقدها.
خصائص المنهج السيميائي
بالرغم من تعدد جوانب المنهج السيميائي واتساع أصوله وفصوله، إلا أنه يحتفظ بخصائصَ ومميزاتٍ عامة تحكم مختلف عناصره، وتطْبع سائر أدواته الإجرائية والمِنهاجية. ويمكن أن نوجز خصائص هذا المنهاج في النقط الآتية:
* إنه منهج داخلي محايِث (Immanent) : أي يركز على داخل النص، ويهدف –بالأساس- إلى بيان شبكة العلاقات القائمة بين عناصر الدال من حروف وكلمات وعبارات. وذلك من منطلق أن العلاقة التي تقوم بين العمل الأدبي ومحيطه الخارجي لا ترقى إلى مستوى تأسيس معنى عميق للنص.
ويرى لويس بانيي (L. Panier) أن المحايثة –باعتبارها مبدأً- طريقة في التحليل يُؤْتَى بها لمراعاة انقسام النص إلى محتوىً (معنى) وتعبيرٍ (مبنى). والواقع أن هذا المبدأَ مستخلصٌ من الدراسات اللسانية، إذ تحدث سوسير عن مبدإ الاستقلالية، ووظف هلمسليف في أبحاثه مبدأ المحايثة. على اعتبار أن موضوع اللسانيات هو الشكل، لذلك لا حاجة إلى الاستعانة بما لا يرتبط بالشكل؛ ومن ثم وجب إقصاء كل واقعة "خارج لسانية"، لما له من انعكاس سَلبي على تجانس الوصف اللغوي.
ويبدو أن مبدأ المحايثة في غاية الوضوح والبساطة، بيد أنه يثير إشكالات نظرية ونقدية عدة. من ذلك ما يثيره من إشكالات مرتبطة بمكان وجوده؛ إذ لم يقمِ الاتفاقُ حول ما إذا كانت المحايثة موجودة داخل البنيات النصية، أم إنها لا تتعدى الوجود الذهني النظري... إن الأمر –حسب غريماص- شبيه بالإشكال المتعلق بمبدإ "الديالكتيك"؛ إذ إنه بالرغم من التسليم بوجود هذا المبدإ، يظل السؤال واردا حول فضاء وجوده: هل يقع داخل الأشياء أم داخل الأذهان؟
* إنه منهج بنيوي: ذلك بأنه يستمد الكثير من مبادئه وعناصره من المنهج البنيوي اللساني. يقول صاحبا "دليل الناقد الأدبي": "إن التحليل السيميولوجي تَبَنى الإجراءات والمنهجية البنيوية التي أرْساها سوسير"[80]. ويظهر هذا –بجلاء- من خلال استقراء بعض المصطلحات الفاعلة في التحليل السيميائي، مثل : البنية (Structure)، والمستوى السطحي (Le niveau de surface)، والمستوى العميق (Le niveau de profond)، والنسق (Système)، والعلاقات (Relations)... وهذه كلها مصطلحات ازدهرت مع النقد البنيوي الذي يوصي بالاهتمام بداخليات النص.
* إنه متميز الموضوع : فإذا كانت اللسانيات تعنى بالقدرة الجُمْلية؛ أي بتوليد الجملة بوصفها أكبر وحدة لغوية، فإن السيميائيات –وخاصة السردية (S. Narrative) – تهتم بالقدرة الخَطابية؛ أي ببناء الخطاب (Discours) وتنظيمه... ولعل هذا ما دفع بعض الدارسين إلى وسْم السيميائيات بصفة "النصية".
علاقة السيميائيات بالمجالات الأخرى (اللسانيات خاصة).
مما لا شك فيه أن للسيمائيات علاقات بحقول معرفية أخرى. إذ سبق لنا أن رأينا –مع سيوسير- العلاقة القوية بين علم السيميولوجيا وبين السيكولوجيا من جهة، وبينه وبين السوسيولوجيا من جهة ثانية. كما أن للسيميولوجيا روابطَ مع أنواع أخرى من مجالات التفكير، حيث يقول جان كلود كردان: "من المؤكد أن علم السيميولوجيا هو التقْليعة الراهنة، إذ لا تمر شهورٌ دون أن نعثر على إحالات جديدة تشير إلى العلائق التي يقيمها مع شتى أنواع مجالات التفكير التي كانت تبدو إلى حد الآن في غير حاجة إليها: علم النفس، النقد المسرحي، التحليل الأيقوغرافي (علم الصور)، دراسة الأساطير، بل حتى تقنيات التوثيق..."[81]. ويقول الدكتور أنطوان طعمة: "إن الرموزية –أي السيميائيات- تلتقي مع علم يختص بالتفسير والتأويل هو الـHerméneutique. واللقاء مخْصب جدا"[82]. وللسيميائيات كذلك علاقات واضحةٌ بالمنطق والنحو والبلاغة[83] وغيرها من العلوم. وما يُهِمنا في هذا المبحث هو أن نقف وقفة متأنية عند علاقة السيميائيات باللسانيات خاصةً.
لقد أوْمَأ الدارسون إلى طبيعة هذه العلاقة، ودرسوها[84]. وذكر بعضهم أن السيميائيات لم تكن متميزة من النظرية العامة للغة، بل كانت تابعة لها. ولكن –مع توالي الأيام- تطورت السيميائيات، واستحالت إلى علم قائم بذاته[85]، وذلك من خلال "القيام بجمع شمْل العلوم والتحكم فيها، وإنتاج أدوات معرفية لمقاربة مختلف الظواهر الثقافية باعتبارها أنساقا تواصلية ودلالات".[86]
لقد ذهب سوسير إلى أن اللسانيات جزء من علم عام هو "السيميولوجيا". يقول: "وليس علم اللغة إلا جزءا من هذا العلم العام. وإن القوانين التي ستَكشف عنها السيميولوجيا ستكون قابلة للتطبيق على علم اللغة".[87] ويقول في موضعٍ آخر: "أما بالنسبة إلينا، وخلافا لمن سبقنا، فنعتبر أن المسألة اللسانية هي قبل كل شيء مسألة سيميولوجية".[88]
وفي المقابل، يرى بارث أن اللسانيات أصل والسيميولوجيا فرع. يقول إن "اللسانيات ليست جزءا من النظرية العامة للعلامات... إن السيميولوجيا جزء من اللسانيات".[89]
وتجْدُر الإشارة إلى أن الدكتور محمد السرغيني في مؤلَّفه "محاضرات في السيميولوجيا" قد وقع في خلط واضح حين قال: "اعتبر سوسير اللغة أصلا والسيميولوجيا فرعا، وجعل إحداهما مرتبطة بالأخرى ارتباطَ عام بخاص".[90] وكرر الخلط نفسَه حين قال في مكان آخر : "يفهم بارث السيميولوجيا إذن على أنها علم عام تعتبر الألسنة جزءا منه".[91] فمن الواضح جدا أن الباحث قد نسب إلى سوسير ما حقه أن يُنْسَب إلى بارث، وأنه قد نسب إلى بارث ما حقه أن ينسب إلى سوسير !.
ولجاك دريدا (Jacques Derrida) رأيٌ آخرُ في هذا المضمار. فهو –وإنْ اعترف بجهود بارث –دعا إلى تجاوز المقولة البارثية المذكورة آنفاً، وذهب في كتابه الشهير "في النحوية" إلى أن "الغراماتولوجيا" (Grammatologie) –الكتابة باعتبارها أثراً – هي الأصل الذي سيحل محل السيميولوجيا واللسانيات. لأن الغراماتولوجيا –كما يقول دريدا- "علم لم يتحقق بعدُ، ولن يستطيعَ أحد أن يقول ما هو، لكن له حقا في الوجود... والألسُنية ستكون مجرد جزء من ذلك العلم العام، وإن القوانين التي تكتشفها الغراماتولوجيا ستنسحب على الألسنية".[92]
نقد السيميائيات.
لم تَسْلَم السيميائيات من عيوبٍ ومآخذَ، شأنها في ذلك شأن سائر المناهج النقدية. وقد عرض تودوروف ودوكرو في معجميهما المشترَك أبرز المآخذ والانتقادات الموجهة إلى التحليل السيميائي.[93]
ينظر المتحمسون للسيميائيات إليها باعتبارها "علمَ العلوم". لكن دارسين آخرين ينظرون إليها نظرة مخالِفة. إذْ عدها بارث علما غيرَ كافٍ، وأكد تودوروف أنها ماتزال في طور تأسيس أصولها المعرفية على أرضية ثابتة، وأنه –رغم كل ما بذل من مجهود- لا يمكن الحديث عن بناء علمي متكامل. بل إن السيميائيات "تظل مجموعة من الاقتراحات أكثر منها كيانا معرفيا قائما على أساس متين".[94] وفي السياق نفسِه ، يرى مارسيلو داسكال (Marcelo Dascal) أن السيميائيات ما تزال في مرحلتها الطفولية ولم تتحول بعدُ إلى علم قائمٍ على تجانُس منهجي ومعرفي، حيث يقول: "إن السيميولوجيا ما تزال في مرحلة ما قبل الأنموذج من تطورها كعلم".[95]
ومن المآخذ المسجلة على السيميائيات أنها غيرُ مستقلة بذاتها، بل متوقفة –في وجودها- على عدة علوم؛ وخاصة اللسانيات التي حاصرتْها من كل جهة، وهيمنت على إوالياتها الإجرائية. واعتبر بعضُهم التحليل السيميائي خليطا من علوم اللغة والنحو والبلاغة. وسبق لسوسير أن أكد انْبِناء السيميولوجيا على أساسيات علم النفس الاجتماعي...إلخ
عِلاوة على هذا النقد الموجه إلى المنهج السيميائي من الناحية النظرية، هناك انتقادات أخرى توجه إليه من الجانب التطبيقي. ومن ذلك أنه مغْرق في التجريد والمنطق، خاصة مع مفهوم "المربع السيميائي" (Carré sémiotique).[96]
كما أن جل الدراسات السيميائية تنهج نهجا شكلانيا مستبعدا المحددات الاجتماعية والثقافية وغيرَها. وعليه، تقترب هذه الدراسات جدا من المقاربة البنيوية، خاصة وأنها كثيرا ما تستخدم المصطلحات السوسيرية نفسَها.
إن المنهج السيميائي طُبق –بكثرةٍ- في دراسة العلامات البسيطة، في حين إن العلامات المعقدة والمنطوية على قدْر كبير من الجمال لم تنل حظها الأوفى من المقاربة السيميائية. يقول الدكتور عادل فاخوري: "بقيت الأبحاث السيميائية متوقفة عند تفسير العلامات البسيطة. والحال أن العلامات التي تتوفر فيها درجة عالية من الفن والجمال هي في كثير من الأحيان، وخصوصا في الأقاويل الشعرية واللوحات والأفلام والفيديوات.[97] وعلى العموم في الأنساق المتعددة الوسائط، ذات تركيب يبدو أنه يخضع لقواعد منضبطة. وحتى الآن، على حد علمنا، لم يَجْرِ تحليل هذه التراكيب وتقنينها".[98]
ثم إن المنهج السيميائي يُسْقَط في كثير من التجارب النقدية بشكل آلي على جميع النصوص دون مراعاة خصوصية كل نص وطبيعته والجنس الأدبي الذي ينتسب إليه.
ومهما قيل في نقد المنهج السيميائي وتَعداد نواقصه، فإنه ما يزال يحظى بمكانة مرموقة في المشهد النقدي المعاصر الذي يعج بزَخَمٍ من المناهج. ويمكن لمستخدِمه أن يحقق نتائجَ مهمةً إن أحسن توظيفه(*).
منقول للافادة