تأميم الصحافة لتوجيه الرأى العام لصالح حكم عبد الناصر
٢٠٠٨
لعل الحدث الأهم في تاريخ الصحافة المصرية بعد ثورة ٢٣ يوليو ٥٢، هو صدور قانون تنظيم الصحافة في ٢٤ مايو ١٩٦٠، وإن كان ذلك نتيجة طبيعية لموقف الثورة من الصحافة واتجاه الدولة نحو النظام الاشتراكي كنظام اقتصادي، بديلاً عن النظام الرأسمالي، الذي كان سائداً قبل قيام الثورة، حيث بدا واضحاً رفض الثورة وقادتها لليبرالية وحرية الرأي والديمقراطية بالمفهوم الليبرالي، حتي إن القانون كان مقدمة منطقية لما تبلور فيما بعد بوضوح من تحول اشتراكي بلغ ذروته بقرارات يوليو الاشتراكية في ١٩٦١، وصدور الميثاق في مايو ١٩٦٢، وكما ذكر الرئيس عبدالناصر في خطابه في ١٠ يوليو ١٩٦٠ حتي إن الرئيس عبدالناصر لفت إلي استحالة وجود صحف تعبر عن رأي أصحابها الخاص ويملكها أفراد أو شركات مساهمة يمثلون رأس المال الخاص، في الوقت الذي يتبني فيه النظام الفكر الاشتراكي، وغياب التنظيم الحزبي واعتماد الثورة تنظيماً سياسياً واحداً (هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي).
قبل قانون تنظيم الصحافة بدأت بعض التمهيدات لصدوره واضحة في خطاب الرئيس عبدالناصر وتصريحاته، وفيما نشره بعض الكتاب والصحفيين في ذلك الحين، ففي خطاب الرئيس جمال عبدالناصر في عيد الثورة عام ١٩٥٩، قبل ما يقرب من عام علي تنظيم الصحافة، هاجم الصحافة المصرية واتهمها بعدم إلقاء الضوء علي قضايا المواطنين الكادحين، في الوقت الذي تخصص فيه مساحات كبيرة لأخبار العاطلين بالوراثة، وأبناء الطبقة الارستقراطية التي نشأت أثناء الحكم التركي والاحتلال البريطاني وسيدات المجتمع، ووصفها بأنها تقدم صورة بعيدة كل البعد عن مجتمعنا الاشتراكي الجديد، وهو ما دعا بعض الأصوات في الاتحاد القومي للمطالبة بأن يكون للاتحاد دوره الإيجابي في توجيه الصحافة
الطبل والزمر لتقييد الصحفيين وتوجيه أقلامهم بتأميم الصحافة
وانتقد محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير «الأهرام» وقتها في مقال عنوانه (حرية الرأي) الصحافة المصرية، وشن هجوماً حاداً عليها وقال إنها لم تستطع التخلص من كونها صحافة شخصية تعبر عن الرأي الخاص لأصحابها ومحرريها، وانحازت لحساب المرفهين وفشلت في التعبير عن الرأي العام لمجتمع بأكمله علي اختلاف طبقاته.
وفي مجلة «روزاليوسف» كتب فتحي غانم في عدد ٢٨ ديسمبر ١٩٥٩ مؤكداً علي حق الدولة وقتذاك في أن تتدخل لتوجيه حرية الرأي، ودعا إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير المجلة، إلي ضرورة أن تنظم الصحافة في إطار الاتحاد القومي، لأنها تعد أداة من أدواته، وفي مقال آخر بـ«روزاليوسف» في ٢١ مارس ١٩٦٠ اقترح إحسان علي مجلس إدارة المجلة أن يشتري المحررون والعمال الدار من أصحابها بقيمة رأس المال حتي لا تترك عدالة توزيع الحقوق نظير العمل في يد أصحاب الدار يوجهونها حسب أمزجتهم، واقترح أن تقسم الأرباح آخر السنة إلي ٣ أبواب، أحدها يدفع منه الأقساط المستحقة لأصحاب الدار الأصليين، وآخر يرصد فيه الاحتياطي وما قد يتطلبه التوسع في أعمال الدار، والباقي من الأرباح يوزع علي حملة الأسهم.
وهاجم علي أمين في «أخبار اليوم» في ١٤ مايو ١٩٦٠ «انفلات» بعض الكتاب وتصورهم أن الحرية تسمح لهم بأن «يدوسوا» مقدسات المجتمع والمثل العليا، وهو ما رآه كثيرون مقدمات مؤكدة لتأميم الصحافة من بينهم الدكتورة ليلي عبدالمجيد التي أكدت في كتابها (حرية الصحافة في مصر بين التشريع والتطبيق) أن هذه المقالات كانت بتوجيه من الدولة لتمهد لإصدار ما يسمي بقانون (تنظيم) الصحافة، مدللة علي ذلك بأن هذه المقدمات تضمنت الخطوط العامة لما جاء عليه القانون بعد ذلك، خاصة أن ما أشار إليه بعض الكتاب في تعليقاتهم علي صدور القانون من أن الثورة تتبني امتلاك الشعب الصحافة، ورفض استمرار ملكيتها في يد أفراد،
وهو ما كان يعكس وجهة نظر النظام، مضيفة أنه في ٢٤ مايو ١٩٦٠ صدر قرار من رئيس الجمهورية بقانون رقم ١٥٦ لسنة ١٩٦٠ حيث حرص كتاب ومسؤولون علي تأكيد أن ما حدث ليس تأميماً للصحف بل تنظيماً لها بالتأكيد علي أن التأميم هو انتقال رأس المال من أصحابه إلي دائرة رأس المال العام، ويذهب فائض ربحه إلي وزارة الخزانة، وهو ما لم يحدث مع الصحافة التي انتقلت ملكيتها إلي الاتحاد القومي، وهو التنظيم الشعبي الذي ينظم العمل السياسي، وهو ليس جهازاً إدارياً أو تنفيذياً، وتضمن القانون اشتراط الحصول علي ترخيص من الاتحاد لإصدار الصحف والحصول علي ترخيص من الاتحاد للعمل بالصحافة، وأيلولة ملكية صحف «الأهرام» و«أخبار اليوم» و«روزاليوسف» و«دار الهلال» وجميع ملحقاتها للاتحاد القومي وينقل إليه ما لأصحابها من حقوق وما عليهم من التزامات، مقابل تعويضهم بقيمتها مقدراً وفقاً لأحكام هذا القانون.
أما مجالس إدارات المؤسسات الصحفية والتي أشار إليها قانون التنظيم فقد شكلت في اليوم نفسه لصدور القانون وقابلت الصحف القانون بالترحيب وظهر هذا في افتتاحياتها وفي مقالات رؤساء تحريرها وكبار كتابها، والتقي الرئيس عبدالناصر بعد صدور القانون وتشكيل مجالس إدارات المؤسسات الصحفية الجديدة، بأعضاء هذه المجالس ورؤساء تحرير الصحف والمجلات وتحدث عن الظروف التي اقتضت نقل ملكية الصحف للشعب ورسالة الصحافة ودورها في المجتمع الاشتراكي الديمقراطي.
ونفي في حديثه أن يكون أحد بعينه مقصوداً بهذا الإجراء، مستنكراً تحول الصحافة إلي سلعة أو تجارة، ولفت إلي أن ما تم من تنظيم قائم علي قناعة أساسها طبيعة المجتمع الذي نعيش فيه، وقال: «ليس هدفنا أن نغتصب مباني ٥ أدوار أو ١١ دوراً.. لابد أن نبني، مجتمعاً اشتراكياً متحرراً من الاستغلال، المجتمع الذي نريد أن نبنيه بالقطع مش مجتمع القاهرة ولا النادي الأهلي ولا نادي الزمالك ولا نادي الجزيرة ولا السهرات بتاعة بالليل.. مش هي دي بلدنا بأي حال من الأحوال، بلدنا كفر البطيخ.. القرية أي قرية هي دي نموذج بلدنا وهناك مشاكل حقيقية في بلدنا واللي عاوز يكتب عن بلدنا يروح هناك ويشوف الناس اللي لابسين برانيط قش وبيشيلوا الرز طوال النهار لكي يعيشوا دي بلدنا.. ماهياش أبداً فلانة اطلقت أو اتجوزت ولا فلانة طلعت تجري ورا فلان وسابت علان أبداً».
أضاف عبدالناصر في لقائه: «إذا أردنا أن تكون عندنا فعلاً صحافة يجب أن تكون في خدمة الناس في بلدنا وفي خدمة مجتمعها الأصيل الطبيعي اللي احنا جينا منه لما نيجي ونقول إن احنا عايزين نخلق المجتمع الاشتراكي، بحيث يكون فيه قطاع عام نبص نلاقي مقالة تقول لنا بيعوا القطاع العام.. هناك إعلانات لا تتمشي حتي مع كرامتنا كبلد لدرجة أن إعلانات السفارات الأجنبية علي اختلافها أصبحت بنداً ثابتاً في الصحف».
واللافت أن القانون ظل منذ صدوره وحتي الآن مثار الكثير من المناقشات والاختلافات حول ما تضمنه من قواعد تنظيم العمل الصحفي من ناحية وحول تطبيق هذه القواعد في الواقع العملي، من ناحية ثانية، وكانت أهم النقاط التي أثيرت هي هل كان القانون تنظيماً للصحافة أم تأميماً لها؟ يقول د. صليب بطرس إن أول ما يلاحظ علي هذا القانون أنه أطلق عليه اسم «تنظيم الصحافة» وليس تأميم الصحافة ويبدو أن الغرض من هذه التسمية هو أن تدفع عن مصر كما تصور المشرع تهمة امتلاك الدولة للصحافة لو أطلق علي القانون اسم التأميم، لافتاً إلي أن هناك خلافاً في وجهات النظر حول الموضوع،
فالبعض يري أن القانون كان تنظيماً للصحف ونقل ملكيتها للتنظيم الشعبي الذي لا يملكها ملكية تامة وأن الاتحاد القومي لا يدخل في عداد الأشخاص العامة بل هو هيئة شعبية يقوم المواطنون بتكوينها للعمل علي تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة وثار خلاف حول طبيعة ملكية التنظيم السياسي للصحف، ففي الوقت الذي يري فيه محمد حسنين هيكل أن الملكية نوعان ملكية سياسية وملكية مادية، وأن التنظيم السياسي يملك الصحف معنوياً وسياسياً ولا يملكها مادياً،
فالملكية المادية في حقيقتها هي الانتفاع والتنظيم السياسي لا ينتفع بهذه الصحف في غير دائرة المبادئ والأفكار، بل عمال هذه الصحف وموظفوها ومحرروها وكتابها، ويعارض محمود أمين العالم هذا الاتجاه ويعتبره انحرافاً بالملكية العامة عن حقيقتها إلي الملكية الفردية وأن توزيع الأرباح علي العاملين في المؤسسات لا يعني ملكيتهم لها إنما هو نصيبهم من العمل المبذول فحسب، وأشار العالم إلي أن الصحافة انتقلت من الملكية الفردية إلي الملكية العامة من الناحية الاقتصادية فحسب وليس من الناحية السياسية أو الفكرية أو التنظيمية،
وحتي هذه الملكية الفردية يري أنها لم تتحقق بمفهومها الصحيح فقد ظلت الصحافة تتحكم فيها أساليب الملكية الفردية من جري وراء الربح المالي الخالص ومنافسة علي حساب الرسالة السياسية في بعض الأحيان، مدللاً علي ذلك بفتوي مجلس الدولة التي أكدت أن ملكية الاتحاد القومي «التنظيم السياسي القائم وقتئذ» للصحف إنما هي ملكية خاصة يديرها عن طريق مؤسسات خاصة لكل منها مجلس إدارة يتولي مسؤوليتها وإدارتها، وعضو منتدب يتولي مباشرة التصرفات القانونية،
وإن لكل مؤسسة ميزانية تعد طبقاً للنظم المتبعة في الشركات المساهمة وتعتمد بقرار من رئيس الاتحاد القومي. وحول ما أشيع أن إحسان عبدالقدوس المالك الوحيد من بين أصحاب الصحف «دار روزاليوسف»، الذي حصل علي تعويض يضيف أن إحسان نفي ذلك موضحاً أن هذا اللبس حدث نتيجة أنه كان يملك إلي جانب مؤسسة روزاليوسف الصحفية، شركة للطباعة بدأ إنشاؤها عام ١٩٥٨ لم يشملها قرار تأميم الصحافة وقد باعها للاتحاد الاشتراكي بعد التأميم.
وكان من الطبيعي أن تنعكس التغيرات في النظام السياسي الاقتصادي علي تغيير مضمون النقد الصحفي فلم يكن مسموحاً بتوجيه النقد للاتحاد القومي ولا سياسة عدم الانحياز والدعوة القومية العربية وإن سمح القانون بتوجيه الانتقادات لممارسة العمل السياسي في ضوء الالتزام بالميثاق الوطني، كذلك لم يكن مسموحاً بتوجيه نقد للنظام الاجتماعي الذي يهدف لتذويب الفوارق بين الطبقات أو للتحول الاشتراكي أو رفض القطاع العام،
إجراءات تعسفية ضد الصحفيين ذو الأقلام الحرة
ولكن للصحافة أن تناقش مشاكل التطبيق الاشتراكي، وكان الرئيس عبدالناصر حريصاً في كل مناسبة علي أن يؤكد أن الصحافة حرة، ورغم ذلك مارست السلطة السياسية بعض الإجراءات غير الديمقراطية مع الصحافة والصحفيين من ذلك إعفاء فكري أباظة من الكتابة في أغسطس ١٩٦١ ونقل بعض الصحفيين من عملهم إلي مؤسسات القطاع العام للعمل بإدارات العلاقات العامة خلال السنوات ٦٤ ـ ١٩٦٦، وفي فبراير ٦٦ نقل ٣٨ محرراً بصحيفة أخبار اليوم إلي مؤسسات لا علاقة لها بالعمل الصحفي.
تأميم الصحافة ورأى «الحمامصي» ومصطفي وعلي أمين
في عموده بعنوان «الموقف السياسي» بـ«أخبار اليوم» كتب مصطفي أمين في ٢٨ مايو ١٩٦٠: «إننا كنا نؤيد الثورة ونحن أصحاب «أخبار اليوم» ونحن نؤيد الثورة ونحن أصحاب «أخبار اليوم» (سابقاً) وسواء كنا نملك الصحف أو يملكها الشعب فنحن نشعر بأننا جزء لا يتجزأ من هذا الشعب فما دام الشعب أصبح يملك «أخبار اليوم» فمازلنا نحن أصحاب «أخبار اليوم»، ولا يهمنا ونحن في معركة الوطن أن نكون في الصف الأول أو في الصف الأخير».
أما علي أمين فكتب في عموده (فكرة): لم نفاجأ أنا ومصطفي أمين بقرار التأميم فقد ناقشناه وبحثناه ألوف المرات في الخمس سنوات الماضية ومن السذاجة أن يتصور العامل الذي غرس الفانوس في وسط الميدان أنه صاحب الفانونس، كنا نشعر دائماً أننا أقمنا الفانوس لحساب الشعب لا لحسابنا الشخصي أو لحساب أولادنا، الفانوس سيستمر يضيء ونحن لا نحترق ونحن نضيء لك هذا الفانوس ونجد لذة كبري في أن نساهم مع زملائنا في إضاءة النور».
ولكن في كتابه «٢٠٠ فكرة» يقول مصطفي أمين: «لا يمكن أن تكون الصحف حرة وهي مملوكة للحكومة، ولا هي مملوكة للحزب الذي تتكون منه الحكومة، ولا يمكن أن يكون الصحفيون أحراراً والحكومات تعينهم بقرارات وتفصلهم بقرارات، معني حرية الصحافة أن تكون لسان الأمة، لا لسان الحكومة، أن تقول للحاكم ما يريده الشعب لا أن تكتفي بأن تقول للشعب ما يريده الحاكم، معني حرية الصحافة ألا تملك الحكومات الصحف، وإنما يملكها الشعب في شركات مساهمة يساهم فيها عمالها ومحرروها وقراؤها، ولا يمكن أن تكون حرة وهي تابعة للدولة».
أما موقف جلال الدين الحمامصي فيسجله في كتابه «أسوار حول الحوار» فيقول: «أصبحت صحافة مصر بعد تأميمها لغزاً من الألغاز فقد تحولت إلي مدرسة استولت عليها قوي معينة وأدارتها لحسابها وقادتها إلي درك أبعدها عن أنظار القراء وحرمها من حقها في ممارسة واجبها في الرقابة والنقد وباعدت بينها وبين تاريخها القديم عندما كانت تقف في وجه المستعمر الخارجي والجبروت الداخلي.
وتشير مجلة «آخر ساعة» في عددها بتاريخ ٢٣ أبريل ٩٧ إلي أن الحمامصي كان يري أن تأميم الصحافة بصفة خاصة خطر علي المجتمع والمهنة فتصبح الصحافة في قبضة الحاكم، يعين من يشاء ويفصل من يشاء، ويقضي علي الكلمة الحرة وبالوشاية ينقل الصحفيون إلي محال الجزارة والأحذية، وأصبح المعتاد هو استمرار المؤيدين وغياب الرأي الآخر.
***************************
ملاحظة من الموقع : وبعد تهليل مصطفى أمين وعلى أمين طاردهم عبد الناصر وسجن أحدهم وظل الآخر هارباً فى إنجلترا