إعلامٌ عربي عبورٌ في القفزة الخلدونية
يفاجئنا القرن الحادي والعشرين بتسارعاته وببدائله...وقبل أنيستوعب الوعي الفردي أوالجمعي هذه المفاجآت تكون قد بدأت تتمدد وتستمر كي تبقى بعد ذلك!.
ويبدو أن هذا الزمن يحتاجإلى طرائق تفكير غير تقليدية تدخل في آلياتهاتقنيات السرعة غير العادية في الاتصالات والانتشار والتغطية.
باعتبار أن الإعلام أمر حديث الولادة نسبياً إلا أنه منأشد أمورالزمن الجديد التي ارتبطتبالتكنولوجيا، بحيث أن مساحاته تفاقمت وتضاعفت في السنوات االأخيرة فباتت للإعلام تلك الوظائفية الشاسعة والخطيرة،فلم تعد له ثمة وظيفة أحاديةوهو بحد ذاته لم يعد أمراً واحداً وبسبب ذلك فإنه يتجاوز كثيراً وظيفة التأريخ... لكن هل يحتويها؟ هل يفرز السوبر إعلام الجديدعبر وظائفيته المستمرة والمتطورة...هل يفرز مهمات إنسانية ثقافية تستند إلى تراكمات التكنولوجيا الهائلة؟ بحيث تسترد وظيفة أهم من وظيفة المؤرخ إنما في سوياتهاالنبيلة المرتبطة بالدقة والنزاهةوالصدق وبـ«الإنسانية» والتي هي عربة القيادة في هذا الكم الهائل من الأبعاد والمساحات الإعلامية.
وما بين تاريخية(التأريخ) وجسارة وانتشارية وتقانةالإعلام المعاصر تكون محاولة لرسم حضور إعلامي تأريخي ومستقبلي.
تجديد علم التاريخ
إنه تاريخ بدء الكتابة...وإنه تاريخبدء الكلمة، فالإنسانالحضاري لم (يكن) إلا بعد هذه الكلمة، وحين بدأ الإنسان التأريخكان قد أدرك أمرين معاً: هدفه وجوهر الزمن.
تتميز العملية التأريخية بالقدم بين مجموعة التجارب الإنسانية وباستمرارها فيمواكبة وتسجيل حركة السياسة والمجتمعوكذلك الحركة الثقافية والعلمية، حتى أن هذا الكم الهائل التاريخي من المعرفة المسجلة أمكن له أنيحفز التساؤلات عند ابن خلدون فكان ذلك سبباً في ارتباط اسمهبعلمين هما (علم التاريخ) و(علم الاجتماع) وقد عبر ابن خلدون من خلال تطويره لمفاتيح ومفهومات عملية التأريخ من حدود الفكر العربيوالإسلامي إلى العالمية، لأن طروحاتهبلغت درجة النضج اللامحدود بحدود الزمان والمكان فأضحى بذلك إحدى شخصيات الحضارة العالمية التي صنعت الواقع الحالي للأرض وللعالم.
إذن... فقد اتخذ (التأريخ) تطوراً غير عادي في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، لنقل إنه القفزةالخلدونية في علم التأريخ، ولاشك أن معطيات زمانه هي التي أرهصت فكر ابن خلدون باتجاه خلق نهج جديد في (كتابة التاريخ وتحليله).
والآن يهطل هذا الزمن بمعطياته الكثيرة المتداخلة والمتسارعة... فمنيؤرخ لهذا الزمن؟ إنه الإعلام...!يقوم بوظيفة التأريخ ويغدو بذلك خصوصية الذي يصدر عنه وله، فإن (صناعة الإعلام) الحالية تسجل الزمان بوقائعه وحكاياته... قدتسلط الضوء على (جرادة) فتغدو المهمة،وقد تعتم على حياة وموت آلاف الناس فيدخلون في الهوامش غير الواضحة لكتاب التاريخ!.
وكما وضع ابن خلدون مقدمةلـ(تجديد كتابة التاريخ) لم لا نضع مقدمةفي تحديث وعوربة وإحلال قوانين التأريخ في صلب الإعلام... لعل (إعلامنا) يتمكن من أن يكون التأريخ القادم المتكامل... وإذن فماذاقال ابنخلدون؟
التاريخ فن فهل الإعلامفن؟
ندهش إذ نشهد الكلماتالخلدونيةفي التاريخ... تفاجئنا(حداثتها) المتجاوزة حتى على (حاضرنا) والمنطلقة في مناخات تبدو فضاءاتها وأعماقها التفكيرية والإبداعية شديدةالحرية والاستقلالية... ولذلك فهيإبداعية ولذا كانت جديدة ومازالت...!.
يقول ابن خلدون في بدايةالمقدمة«أما بعد فإن فن التاريخمن الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائبوالرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لايزيد عن الأيام والدول، والسوابقمن القرون الأُول، تنمو فيه الأقوال، وتضرب فيه الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيفتقلبت بها الأحوال واتسع للدولفيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى ضاق بهم الارتحال وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق،وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابهاعميق».
لماذا قال ابن خلدون بأنالتاريخ فن؟ يبدو لي أنه قصد الكلمةبكل أبعادها وتحدياتها، لأن الفن هو المجال الإنساني من الفعل الذي يحتمل قدراً كبيراً من الإبداع! نعم فهو ليس مجرد عملية تنزيلللأحداث على الورق، لأن هذا التنزيلالمحايد والبارد قد يسيء إلى قيمة الحدث ووجهته، بل يمكن أن يحول الحدث الذكي إلى مجرد وصف سكوني خال من الحياة التي ولّدته...فتجديداً للفكر التاريخي في القرنالثامن الهجري بدأ ابن خلدون مقدمته الثورية بأن (التاريخ فن)... وأما هذا الفن فهو ليس محدود التوجه وليس محتكراً فهو يتقدملـ(الأمم) زمناً بعد زمن... ولماذاقال ابن خلدون (الأمم) ولم يقل (الناس) مثلاً... ذلك لأن من (مصطلح الأمم) تشع أطياف الجماعية التاريخية التي تشكل أمة ما منالأمم... إذن فهذا التاريخ الذي قالعنه ابن خلدون بأنه فن هو شيء حركي التوجه وتأثيره ينمو فوق محور الزمن.
يستأنف التعريف الخلدونيمقولاته في (تجديد فعل التأريخ) عبر بعدين، ولعلالبعد الأول عمومي وواضح لأنه البعد التسجيلي المباشر، أما البعد الكامن فهو البعد العلمي والفني، هو المساحة الإبداعية في العمليةالتأريخية التي تتضمن التشريحالواعي للحدث ومنطلقاته وأسبابه الحقيقية.
ينتقل هذا الفعل الإبداعي بحكم آليات الزمن الجديد إلى (الإعلام) بأبعاده الأدائيةوالتوجيهية العديدةوالمتشابكة، وقد مرتتعريفات ابن خلدون لـ(فنية التاريخ) مروراً طيباً ورائعاً بآن معاً فهل نستطيع أن نتعمق في (فنية للإعلام) العربيتجعله مؤرخ الزمن العربي الجديد عبرآليات وعبر فكر تأريخي وإعلامي معاً.. هل يقدم الإعلام العربي تحدياً في (فنية الإعلام) على الطريقة الخلدونية الفذة في زمانها؟ توثيقالأحداث وتوصيفها ثم الخطاب واللغةالتي تطالب بالتجديد أيضاً كونها أضحت تتوجه من فكر وعقل عربي إلى العالم وإلى الآخر الصديق وإلى الآخر الإشكالي وإلى الآخر العدوالصريحالشرس.
التاريخ من علوم الحكمة
علوم الحكمة هي العلومالتأسيسيةالاستراتيجية والتي تنبنيعليها الطوابق الحضارية التالية، والأهم أن هذه العلوم تشكلدوماً مركز الحركية الحضارية، ولذلك ذكر ابن خلدون في كلماته ـ المبادئ: «فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومهاوخليق، وإن فحول المؤرخين في الإسلامقد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها».
وباعتبار أن مسألة أبوة«التأريخ» للإعلام باتت موضحة نوعاً ما، وباعتبارأن هذه الأبوة الحكيمة تنتمي إلى عائلة العلوم الثقيلة فيبدو من حقها أن تطلب من أبنائها الجدد أن يحملوا لقب (الحكيم) وفعلهوهدوءه وصبره، بعد أن حملته الطلائعالقديمة من المؤرخين العرب من كانوا في الصف الأول مثل الطبري وابن اسحق وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي،ثم فريق متأخر أكثر مثل أبو حيانمؤرخ الدولة الأموية في الأندلس وابن الرفيق مؤرخ أفريقيا والقيروان... عملوا بتقنيات التأريخ القائمة على تدقيق الروايات والمقارنةبينها وعمليات الجرحوالتعديل، كل ذلك لأجلالخروج إلى حقيقة ليست محايدة ولا مجردة بل هي (حقيقة حكيمة) تحمل الخصائص والهوية والشخصية، فهل تكون الحكمة بتعريفحداثي من خصائص إعلام عربي؟.
في مواجهة العماء العمومي:
من نبض البصيرة والعلميضخ ابنخلدون الحياة في (فكرالتاريخ)، ذلك أن (العماء العمومي) استولى على عصره (القرن الثامن الهجري) فكان على ابن خلدون أن يبدأ مما هو أكثرمن البصر... ولعل (البصيرة) هيالرؤية العميقة الهادئة المستشفة التحليلية التي تحمل بالحقيقة بهدوء مستمر وربما صعب، تبني قوانينها وقراراتها من الحدث الصحيحوليس الحدث ـ الخبر المصدر والمصفىوفق الخلفية التي يستند إليها المؤرخ... إنه يصم المؤرخ بأنه ناقل، ويدعو المتلقين إلى العقل.
إن (البصيرة العامة) هيالوعي اللازم لرفع (سوية الخبر) ورفعدرجة تحليله ليصل بذلك إلى القانون المسير لحركة سياسية واقتصادية تقودها وتعرفها (البصيرة المجتمعية)... كتلة الرؤى العميقة...إنها الخاص وإنها العام...تلك قولة ابن خلدون التيبلغت من العمر سبعة قرون وكأنها تقدم دليلاً ما لصياغة مبادئتخص الإعلام العربي الناهض والذي تبدو أولى خطواته على مسارات الإعلام العالمي... تلك قولة ابن خلدون الحيوية... ماذا قال:
«والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض وطويل، ومرعىالجهل بين الأنام وخيم وبيل، والحقلا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لهاصفحات القلوبويصقل»
التاريخ هو (ذات الأمة)ذلك ما يقوله الخطاب العربي القديم بما فيه الخطابالخلدوني وذلك ما يقوله أيضاً الخطاب العربي الحديث بما فيه خطاب عصر النهضة واستمراريته حتى اليوم، وباعتبار أنه كذلك فإن (عمليةالتأريخ) يفترض أن تحمل رموز الأمةالتي تنوي تصديرها ليقيم الآخرون علاقاتهم معها على أساسها، ينسحب ذلك على (العمليات الإعلامية) الحديثة جداً! وتغدو تكنولوجياالإعلام بديلاً عن أدوات التأريخمن الناحية الشكلية، إذ لايزال (الخبر) يحتمل الروايات العديدة أولاً، ثم الروايات الكاذبة، وكذلك الرواية الرسمية والروايةالموجهة التي تسلط الضوء على نواحوتعتم على نواح أخرى... وفي تداع قديم نلحظ أن الروايات كانت تعاني أيضاً من أمراضها الإنسانوية التي احتج عليها الفكر الخلدونيفشخصها بأنها زخارف وإضافات وتلفيقاتوتوهمات ووصف صانعي هذه الأمراض بـ(المتطفلين): «وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا منها أو ابتدعوها، وزخارف من الرواياتالمضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفىتلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها، وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضواترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيققليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل».
ليس هذا التشخيص محدوداًبلمفتوحاً لأن هذه الأمراض التأريخيةأو الإعلامية هي دوماً ذات منطلقات إنسانوية تواجهبإعادة تفعيل العقل وطرائقه التحقيقية والاستنتاجية.
لئن كانت قوة الإعلام هي قوة جديدة في توازنات الأرض القديمة فإن(إشكاليات الديمقراطية) هي من أمراضالزمن الجديد، وليس لنا إلا أن نأخذ بحظنا من التوازن ولعل في تجربتنا التأريخية المهمة جداً ببعديها: الأول التقليدي والثانيالإبداعي الخلدوني ما يمنحناشيئاً من الخصوصية والأحقية في خلق مبادئ تنظير إعلامي عربي.