الأمير بعيون فاغنر
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] 03-12-2010 عبد العزيز بوباكير
كلّ من عرف الأمير عن كثب، من كتّاب ورسامين ومؤرخين وعساكر، يشهد له بشجاعته كفارس وحنكته كرجل دولة، وشهامته كإنسان. ومن هؤلاء موريتز فاغنرMoritz Wagner وهو عالم ألماني ومستكشف، وجامع للنباتات ومؤرخ للطبيعة والجغرافيا. كرّس ثلاث سنوات من حياته (1836-1839) لاكتشاف الجزائر، فطافها من أقصاها إلى أقصاها، مدوّنا ملاحظات هامة عن تاريخ الطبيعة. وهي الملاحظات التي طوّرها فيما بعد، وعلى أساسها وضع نظرية تقول إن الانعزال الطبيعي يمكن أن يلعب دورا هاما في تطوّر الأنواع. ثم قام برحلة طويلة إلى أمريكا الشمالية والوسطى وجزر الكاراييب، مواصلا أبحاثه المثيرة في نفس الاتجاه. وقد أثارت نظريته جدلا واسعا في أوساط علماء زمانه، ووقعت مراسلات بينه وبين داروين حول هذه المسألة وأصل الأنواع. وفي نهاية الأمر رفض داروين نظرية فاغنر، واعتبرها ''أكثـر الوساخات حقارة''. في سنة 1887 وبعد أن شعر أنه أصبح لا يقدم شيئا، وأن الفراغ ينهش حياته، وضع حدا لها، وهو في الثالثة والسبعين من العمر.
لم يكتف فاغنر بدراسة الثروة النباتية والحيوانية للجزائر، بل عاين الظاهرة الاستعمارية بموضوعية العالم وحس الإنسان الفضولي. وانظم، بوساطة من أدريان بربيجي، مؤسس المكتبة الوطنية، إلى لجنة علمية كلّفها الجنرال دامريمون بإجراء أبحاث ميدانية عن الجزائر، ورافق الجيش الفرنسي في حملاته على الرغاية والبليدة والعفرون وقسنطينة وغيرها من المدن، مسجلا ملاحظاته التي صدرت بعد ذلك في كتاب من ثلاثة أجزاء بعنوان ''رحلات إلى ولاية الجزائر''.
بعد معاهدة الثافنة نزل ضيفا على الأمير عبد القادر بمعسكر، وقدّم لنا، من خلال معاشرته ومحاورته له، صورة فريدة ورائعة تمتاز بالدقّة والموضوعية والإنصاف، وهي في رأيي أفضل من الصوّر التي رسمها عن الأمير كلّ من الإنجليزي هنري تشيرشيل، والألماني مالتسان، والفرنسي ليون روش، والروسي دوختوروف. وقد ترجم لنا هذا النص القصير من الألمانية الدكتور أبو العيد دودو، ونشره في كتابه '' الجزائر في مؤلفات الرحّالين الألمان''.
كان الأمير حين التقاه فاغنر في الثانية والثلاثين من عمره. يصفه فاغنر بهذه العبارات ''هو قصير القامة، نحيف الجسم، ولكّنه جميل المظهر، شديد بياض البشرة، عيناه زرقاوان يخالط زرقتهما لون رمادي، وهما تشّعان في جمال، خاصة حين يتكلم بحيوية. وله لحية وشارب شديدا السواد غير أنهما ليسا كثيفين، وقد كسّر أحد أسنانه الأمامية، أما أسنانه الباقية فليست جميلة كما هو الحال عند أغلب العرب، صوته عميق حلو النغمة. والحماس الديني أبرز ملامح الأمير. وعلى جبينه ووجنته ويده اليمنيين وشم صغير. أما ثيابه فإنها في منتهى البساطة، فهي أقل جمالا من ثياب بقية الشيوخ. ويرتدي الأمير عادة حائكا أبيضا ويلبس فوقه برنوسا مصنوعا من شعر البعير. ومن الصعب أن يصل الإنسان إلى معرفته بين جمع غفير من العرب، إلا أن سلاحه وسرجه يمتازان بنوع من الفخامة.
ويلي هذا الحديث وصف لحياة الأمير التي يقول عنها فاغنر ''إنها بسيطة كثيابه، فهو يسكن، منذ أن هدّم قصره في معسكر، خيمة عادية لا يتركها إلى قصره الجديد في تقدمت إلا لمدة قصيرة. وطعامه زهيد، ولا يخشى الأمير الجوع والتعب. ويعتبر أحسن الفرسان في بلاد الجزائر''.
وبعد هذا يثني فاغنر على تفتّح الأمير بالقول ''ولم يكن الأمير يحمّل الشعب على التعصب الشديد، وبرهن أكثر من مرة على أنه يريد مسالمة الكفار، فاستضاف من زاره من الرسل الفرنسيين والرحّالين، وأكرمهم وعاملهم بلطف، ولم يكن يرى ما يحول بينه وبين أن يتحدث معهم في كلّ شيء، حتى في المواضيع الدينية. وكان يتكلم بحيوية، ولكنه لم يكن يحتد أبدا، وحديثه أحيانا في منتهى الروعة، حيث كانت الكلمات الجميلة والأفكار البديعة تنبعث من فمه أخّاذة.
ويسترسل فاغنر في الحديث عن عدل الأمير فيقول ''إن الأمير كان يسوس رعيته بالعدل، ولم تقلّ عمليات الإعدام أبدا بقدر ما قلّت في أيامه. والجدير بالذكر أيضا أنه لم تقع قطّ محاولة لاغتياله، حتى في أيام محنة هزيمته، وذلك عندما انفصلت عنه أخلص القبائل له. في حين أن أغلب الدايات كانوا قد انتهوا نهاية دموية، وأن الداي حسين، آخر دايات الجزائر، كان يلازم القصبة ولا يتركها، وأن الدايات لم يكونوا أبدا يجرؤون على القيام بنزهات من غير أن يرافقهم عدد كبير من الحرس التركي. أما الأمير، فكان يسكن في خيمة مفتوحة، ويسير بمفرده متنقلا بين القرى من غير سلاح، وكان يستقبل أينما حلّ باحترام بالغ وتقدير فائق''.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]